من أبرز المسائل التي أثارت جدلاً بين العلماء مسألة لعن يزيد بن معاوية، حيث تباينت فيها المواقف بين المجيزين والمانعين، وظهرت على إثرها مؤلفات ومناظرات بين كبار العلماء. فقد صنّف الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي كتاباً يجيز فيه لعن يزيد، وردَّ بذلك على الشيخ عبد المغيث الحربي الذي كان يمنع من ذلك، ودار بينهما خلاف طويل ترك أثره في كتب التراجم والتاريخ.

وفي هذا المقال نسلط الضوء على أقوال الفريقين، ونقف عند رأي ابن تيمية في منهاج السنة، ونكشف حقيقة الموقف من سبي نساء الحسين رضي الله عنه وبني هاشم، مما يبرهن على أن كثيراً من الروايات التي يستند إليها بعض الشيعة وغيرهم لا تثبت عند التحقيق العلمي الدقيق.

الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي أباح لعن يزيد:

يقول ابن تيمية:

"وأما أبو الفرج ابن الجوزي، فله كتاب في إباحة لعنة يزيد، وردّ فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي؛ فإنه كان ينهى عن ذلك. وقد قيل: إن الخليفة الناصر لما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث عن ذلك قصده وسأله عنه، فعرف عبد المغيث أنه الخليفة، ولم يُظهر له ذلك، فقال: يا هذا، إن قصدي كفُّ ألسنة الناس عن لعنة خلفاء المسلمين وولاتهم، وإلا فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحقَّ باللعن؛ فإنه يفعل أموراً منكرة أعظم مما فعله يزيد؛ فإنه يفعل كذا وكذا. وجعل يعدد مظالم الخليفة، حتى قال له: اردعني يا شيخ، وذهب".

منهاج السنة، ج4، ص574-575.

موقف عبد المغيث الحربي

أقول: الحافظ عبد المغيث الحربي خرج بنتيجة تخالف ما وصل إليه الأستاذ الشنقيطي، حيث قال: "وإلا فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن؛ فإنه يفعل أموراً منكرة أعظم مما فعله يزيد".

وبطبيعة الحال، كان الخلفاء في ذلك الوقت يحكمون بشرع الله، ولم يكن يخطر ببالهم أن يستبدلوا الشريعة بالقوانين الوضعية. بينما نجد الأستاذ الشنقيطي يدافع عن حكام عصرنا الذين بدّلوا شريعة الإسلام، وأحلّوا قوانين وضعية مكانها، بل قدّسوها وحاربوا أهل الإسلام من أجلها. هؤلاء الحكام الذين باعوا البلاد للأعداء صاروا عنده خيراً من يزيد بن معاوية! فصار لأول مرة عند بعضهم فقه جديد: الحاكم المرتد أفضل من الحاكم المسلم الفاسق!

رواية ابن رجب عن الخلاف

يروي ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة عن الخلاف بين عبد المغيث وابن الجوزي:

"عبد المغيث بن زهير بن علوي الحربي، المحدث الزاهد، أبو العز بن أبي الحرب... وكان صالحاً متديناً، صدوقاً أميناً، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهداً في اتباع السنة والآثار... وجرت بينه وبين صاحب المنتظم ـ يعني أبا الفرج ابن الجوزي ـ نفرة كان سببها الطعن على يزيد بن معاوية. وكان عبد المغيث يمنع من سبه، وصنّف في ذلك كتاباً وأسمعه. وصنّف الآخر كتاباً سمّاه (الرد على المتعصب العنيد، المانع من ذم يزيد) وقرأته عليه. ومات عبد المغيث وهما متهاجران".

الذيل على طبقات الحنابلة، ج3، ص356.

رأي ابن الجوزي في عبد المغيث:

قال ابن الصيرفي:

"ولقد حكى لي شيخنا محب الدين أبو البقاء أن الشيخ جمال الدين ابن الجوزي كان يقول: إني لأرجو من الله سبحانه أن أجتمع أنا وعبد المغيث في الجنة. قال: وهذا يدل على أنه كان يعلم أن الشيخ عبد المغيث من عباد الله الصالحين، فرحمة الله عليهما".

الذيل على طبقات الحنابلة، ج3، ص356.

ثناء العلماء على عبد المغيث

ذكر ابن مفلح في المقصد الأرشد:

"عبد المغيث بن زهير بن علوي الحربي... كان صالحاً متديناً، صدوقاً أميناً، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهداً في اتباع السنة والآثار... وصنّف في منع ذم يزيد كتاباً، وصنّف ابن الجوزي كتاباً مقابلاً له... وتوفي ليلة الأحد ثالث عشر المحرم سنة 583هـ، وكانت جنازته مشهورة، ودُفن عند الإمام أحمد".

المقصد الأرشد، ج2، ص136.

قصة سبي نساء الحسين رضي الله عنه

أما ما ذكره الأستاذ الشنقيطي من استباحة فروج العفيفات وسبي نساء الحسين، فقد نقل ذلك من غير أن يذكر رأي علماء الحديث في صحته. وهنا ننقل ما قاله ابن تيمية:

"وأما ما ذكره (أي ابن المطهر الحلي) من سبي نسائه وذراريه... فهذا كذب وباطل: ما سبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبي بني هاشم قط. ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً... وفي الجملة، فما يُعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية، ولا سُبي عيال الحسين. بل لما دخلوا بيت يزيد قامت النياحة في بيته، وأكرمهم وخيّرهم بين المقام عنده أو الذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع. ولا طيف برأس الحسين. وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب ما ليس هذا موضع بسطه".

منهاج السنة، ج4، ص558-559.