تُعَدّ شخصية يزيد بن معاوية من أكثر الشخصيات التاريخية التي أثارت جدلًا واسعًا بين المسلمين عبر العصور، نظرًا لما ارتبط بعصره من أحداث جسام، كواقعة كربلاء ووقعة الحرّة. وقد انقسمت المواقف حوله بين من غلا في ذمّه حتى أخرجه من الملّة، ومن غلا في الدفاع عنه حتى برّره من كل خطأ. ومن أبرز ما يُثار في هذا السياق: مسألة لعن الحافظ ابن كثير ليزيد بن معاوية في البداية والنهاية، وهي رواية تتناقلها بعض الأقلام دون تمحيص أو نظر إلى سياق كلامه. في هذا المقال نستعرض نص ابن كثير كاملًا، ونكشف أسلوبه في صياغة الحكم بالتمريض والتعليق، ثم نعرض أقوال بعض كبار علماء السنة في يزيد، كابن عمر، ومحمد بن الحنفية، وأبي جعفر الباقر، والليث بن سعد، وابن خلدون، وغيرهم، ليتضح للقارئ حقيقة الموقف بعيدًا عن التهويل والتحريف.
رواية أن ابن كثير لعن يزيد بن معاوية:
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية:
"وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعرى في وقعة أحد التي يقول فيها:
ليت أشياخي ببدر شهــــدوا ** جزع الخـــزرج في وقع الأسل
حين حلت بفناء بركها ** واستحر القتل في عبد الأشل
قــد قتلنا الضعف من أشرافهم ** وعدلنــا ميل بدر فاعتــــــدل
وقد زاد بعض الروافض فيها فقال:
ليت هاشماً بالملك فلا ** ملك جاءه ولا وحي نزل
فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه".
راجع: ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص224.
أقول: نلاحظ أن ابن كثير صاغ الرواية بالتمريض، وطريقة الشك واضحة في قوله: "ما يوردونه عنه" و"وزاد بعض الروافض".
كما أن الأبيات المذكورة تفتخر بأيام الجاهلية وتطعن في النبوة، وهو كفر صريح. لذا قال ابن كثير: "إن كان قاله يزيد فلعنة الله عليه"، لكنه لم يجزم بلعنه، بل أضاف: "وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه".
وقد سبقت الإشارة إلى ردّ ابن تيمية رحمه الله على هذه الترهات، مبينًا أن كثيرًا مما ينسب إلى يزيد لا يثبت بسند صحيح.
ثالثًا: أقوال بعض علماء السنة زيادة على ما ذكره الشنقيطي:
شهادة محمد بن الحنفية رضي الله عنه:
مقالات السقيفة ذات صلة: |
هل قول ابن القيِّم في فناء النار صحيح؟ |
قال ابن كثير:
"ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة.."..
ثم أكمل محمد بن الحنفية ردّ شهادتهم الباطلة مبينًا أن الشهادة لا تجوز إلا بالحق والعلم.
راجع: ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص234–235.
موقف أبي جعفر الباقر:
قال ابن كثير:
"وقال أبو جعفر الباقر: لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان".
راجع: البداية والنهاية، ج8، ص235.
موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
قال ابن كثير:
"وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحداً بعد بيعته ليزيد..".
ثم ساق الحديث الصحيح في التزام ابن عمر بالبيعة، ورواية مسلم والترمذي في ذم الغدر.
راجع: البداية والنهاية، ج8، ص233.
قول الليث بن سعد:
قال ابن العربي:
"فإن قيل: كان يزيد خماراً. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين... وروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال الليث: (توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا)".
راجع: ابن العربي: العواصم من القواصم، ص233–234.
رواية المدائني:
ذكر أن يزيد تألم لأهل المدينة بعد الحرة، فأرسل لهم الطعام والأعطيات، خلاف ما يرويه الرافضة من أنه شمت بمقتلهم.
راجع: ابن كثير: البداية والنهاية، ج8، ص235.
كلام ابن خلدون:
قال ابن خلدون:
"والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد... إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم..".
ثم فصّل في تحليل سياسي واجتماعي بديع، بيّن فيه أن ولاية يزيد كانت لا تخلو من إشكالات، لكن مقاصد الصحابة اختلفت اجتهادًا، فمنهم من خرج عليه، ومنهم من رأى البقاء على بيعته دفعًا للفتنة.
راجع: ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج1، ص210–212.