من القضايا التي أثير حولها جدل بين العلماء والمحدثين رواية نُسبت إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، تفيد أنه كان يحك المعوِّذتين من مصحفه، ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله. وقد استغل بعض المخالفين هذه الرواية للطعن في ثبوت سورتي المعوِّذتين ضمن القرآن الكريم، وحاولوا جعلها ذريعة للتشكيك في تواتر النص القرآني. غير أن أئمة الحديث والعقيدة تصدوا لهذه الدعوى، فناقشوا أسانيد الرواية وبيَّنوا عللها، ووضحوا أن موقف ابن مسعود ـ على فرض ثبوته ـ لم يكن إنكارًا للقرآنية، وإنما اجتهادًا خاصًّا في قضية تدوين المصحف قبل أن يستقر الإجماع. وفي هذا المقال نسلط الضوء على حقيقة هذه الرواية، وأقوال العلماء في نقدها وتأويلها، مع بيان الرد على شبهات الشيعة التي تعلقوا بها للطعن في القرآن الكريم.
حدثنا عبد الله، حدثني محمد بن الحسين بن أشكاب، ثنا محمد بن أبي عبيدة بن معن، ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:
"كان يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله".
رواه أحمد في (المسند 5/129)، والطبراني في (المعجم الكبير 9/234) من طريق أبي إسحاق السبيعي، والأعمش وهو سليمان بن مهران، وكلاهما ثقة مدلس من رجال الصحيحين، وقد اختلط السبيعي بأخرة. فإذا أتيا بالرواية معنعنة تصير معلولة (العلل للدارقطني). وهذه الرواية معلولة بالعنعنة. وحُكي عن كل منهما الميل إلى التشيع.
اعتراف رافضي يمنح ابن مسعود عذرا
ونود قبل كل شيء أن نذكر باعتراف الرافضة بأن ابن مسعود لم ينكر المعوذتين كونهما من القرآن، وإنما كان لا يسمح لنفسه بإثبات شيء في مصحفه الخاص به إلا أن يأذن له رسول الله ﷺ بذلك. وكأنه لم يبلغه الإذن.
قال المحقق البحراني:
"فهذا تأويل حسن" (الحدائق الناضرة 8/231).
أقوال العلماء في المسألة
ابن حزم والنووي والباقلاني: أنكروا ثبوت شيء عن ابن مسعود في ذلك.
قال ابن حزم: ضعف الرواية؛ لأنه قد صحت قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان (المحلى 1/13).
وقال النووي:
"أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن. وأن من جحد شيئا منه كفر. وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه" (المجموع شرح المهذب 3/396).
وهذا ما قاله رحمه الله، وحتى لو ثبت فإنه يوجه بمثل ما وجهه البحراني.
رواية عاصم المتواترة
الرواية المنقولة عن ابن مسعود – إن صحت – فهي أقل درجة من حيث الصحة من قراءة عاصم المتواترة. فقد تواترت عن ابن مسعود قراءته بطريق أصحابه من أهل الكوفة، وتلقاها عاصم عن زر بن حبيش عنه رضي الله عنه. وهي التي يرويها أبو بكر بن عياش عن عاصم، وتواترها البالغ مما لا خلاف فيه.
انظر: الأصول المقارنة لقراءات أبي عمرو البصري وابن عامر الشامي وعاصم بن أبي النجود، د. غسان بن عبد السلام حمدون.
رواية البخاري في الرد على الشبهة
جاء في صحيح البخاري:
"حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر، قال: سألت أُبيّ بن كعب، قلت: يا أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أُبيّ: سألت رسول الله ﷺ فقال لي: قيل لي: قُل.. فقلت. قال: فنحن نقول كما قال رسول الله ﷺ" (البخاري 4693).
وهذا نص مجمل، أعني قوله كذا وكذا.
موقف الحافظ ابن حجر من رواية إنكار ابن مسعود للمعوذتين
قال الحافظ ابن حجر في الفتح:
«وقد تأوَّل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الانتصار وتبعه عياض وغيره ما حُكي عن ابن مسعود، فقال: لم يُنكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنَّما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنَّه كان يرى أن لا يُكتب في المصحف شيء إلا إن كان النبي ﷺ أذن في كتابته فيه، وكأنَّه لم يبلغه الإذن في ذلك. قال: فهذا تأويل منه، وليس جحدًا لكونهما قرآنًا، وهو تأويل حسن، إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك، حيث جاء فيها: (ويقول إنهما ليستا من كتاب الله). نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشَّى التأويل المذكور». (فتح الباري 8/472).
قلتُ: قد سبق أن الرواية من طريق أبي إسحاق السبيعي والأعمش، وكلاهما مُدلِّسان، وقد جاءت روايتهما معنعنة. ولولا مجيئهما معنعنة لقبلتا. وعنعنة المدلِّس عِلَّة في الحديث، يصعب معها المسارعة إلى تصحيح السند، فضلًا عن أن تُغلَّب على القراءة المتواترة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والمتضمِّنة للمعوِّذتين.
وعلى فرض ثبوت السند إلى عبد الله بن مسعود في إنكاره للمعوِّذتين، فإن لذلك توجيهات مهمَّة:
1) أن هذا الصحيح المفترض لا يبلغ في درجة صحته قراءة عاصم عن ابن مسعود المتواترة، والتي تضمنت المعوِّذتين والفاتحة.
◘ أن القراءات الثلاث المشهورة ترجع إلى عدد من الصحابة:
◘ فقراءة أبي عمرو ترجع بالسند إلى الصحابي الجليل أُبي بن كعب رضي الله عنه.
◘ وترجع قراءة عاصم بالسند إلى الصحابيين الجليلين عليّ رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
◘ وترجع قراءة ابن عامر الشامي بالسند إلى الصحابيين الجليلين عثمان بن عفان وأُبي الدرداء رضي الله عنهما.
2) أن هذا الموقف كان منه في فترة وجيزة بعد وفاة رسول الله ﷺ إلى أن تم جمع الصحابة على القرآن بالإجماع. فأما بعد هذا فلم يُحكَ عنه شيء من الإصرار على ذلك، بل كان يُدرِّس القرآن ويُفسِّره على الناس طيلة حياته بعد رسول الله ﷺ إلى أن توفَّاه الله. ولم يُنقل عنه بعد الجمع أي إصرار أو استنكار. ولو أنه بقي على موقفه لبلغنا ذلك، كما بلغنا إصرار بعض الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما، الذي بقي حتى خلافة عمر وهو يظن أن النبي ﷺ لم ينه عن متعة النساء.
3) أن هذا القول صدر منه قبل استقرار الإجماع. فأما لو ثبت عن أحد المنازعة فيه بعد إجماع الصحابة عليه فهو منهم كفر. ولهذا حكمنا بالكفر في حق كل من شكَّك في القرآن من الرافضة بعد استقرار الإجماع على هذا القرآن الذي بين أيدينا.
4) أن عبد الله بن مسعود لم يقل ما قاله المجلسي والعاملي والمفيد من أن القرآن قد وقع فيه التحريف مادة وكلامًا وإعرابًا.
5) الصحابة بين العصمة الفردية والإجماع والطعن الشيعي في القرآن
6) إن هذا يؤكد ما نذهب إليه دائمًا من أن الصحابة ليسوا معصومين في آحادهم، وإنما عصمتهم في إجماعهم، فهم لن يجمعوا على ضلالة.
7) ولكن أين هذا من طعن الشيعة في عليٍّ رضي الله عنه، حيث وصفوه بأنه باب مدينة العلم، ثم زعموا أنه بقي ستة أشهر يجمع القرآن، وأنه غضب من الصحابة فأقسم أن لا يروْا هذا القرآن الذي جمعه هو إلى يوم القيامة! وهذا يلزم منه أن القرآن الذي عندنا لا علاقة لعليٍّ رضي الله عنه به، وأن القرآن بقي إلى يومنا هذا غائبًا مع الإمام الغائب المزعوم.
8) وأين هذا من ادعاء الشيعة بعد انقراض جيل الصحابة أن القرآن الذي بأيدينا اليوم قد وقع فيه التحريف، وحُذِف منه اسم عليٍّ وأسماء أهل البيت؟
9) إن من استنكر على ابن مسعود رضي الله عنه موقفه من سورتين صغيرتين – على فرض ثبوته – يلزمه من باب أولى أن يستنكر ما هو أعظم منه، وهو قول الرافضة بأن ثقة الإسلام الكليني كان يعتقد بالتحريف والنقصان في كتاب الله، كما يظهر من مقدمة تفسير الصافي (ص 14 و47، طبع سنة 1399هـ.
10) وقد نقلت بعض الروايات أن عبد الله بن مسعود كان يرى أن المعوِّذتين ليستا من القرآن، وإنما كانتا رُقية يرقي بهما النبي ﷺ الحسن والحسين رضي الله عنهما.
11) قال علي بن بابويه:
«أجمع علماؤنا وأكثر العامة على أن المعوِّذتين من القرآن العزيز، وعن ابن مسعود أنهما ليستا من القرآن، وإنما نزلتا لتعويذ الحسن والحسين، وقد انقرض هذا القول، واستقر الإجماع الآن من الخاصة والعامة على ذلك».
الذكرى للشهيد الأول ص196، بحار الأنوار 82/42، فقه الرضا ص36، جامع المقاصد 2/263 للكركي، الحدائق الناضرة للمحقق البحراني 8/231.