يُعَدّ الحكم بن أبي العاص من الشخصيات التي دار حولها جدل كبير في كتب التاريخ والحديث، حيث وردت روايات عديدة تزعم أنّ النبي ﷺ لعنَه ولعن مَن يخرج من صلبه. وقد تداول هذه الأخبار بعض المصنفين من المحدثين والمؤرخين، إلا أنّها لم تسلم من النقد الشديد في السند والمتن. وفي هذا المقال نعرض جملة من تلك الروايات، ونقف على أقوال العلماء في عللها، مع إبراز التناقضات التي وقع فيها الرواة، ثم نبيّن خطأ منهج الرافضة الذين يطعنون في خيار الصحابة الذين زكّاهم الله في القرآن، في الوقت الذي يُثبتون العدالة لمن لعنهم النبي ﷺ في روايات لا تصح.
قال إسحاق:
أنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، ومجالد، عن الشعبي قال: «لَعَنَ رسولُ الله ﷺ الحَكَمَ ومَن يخرج من صُلبه».
مقالات السقيفة ذات صلة: |
شبهة حول رواية بن القيم الذي يقول بفناء النار الكنجي الرافضي: خيانة للتتار وفضيحة في كتب التاريخ |
رواه أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي قال: سمعت ابن الزبير وهو مستند إلى الكعبة وهو يقول: ورب هذه الكعبة.
ذكره الحافظ في المطالب العالية (2/456). وفي إتحاف الخيرة المهرة: (8/29) «رواته ثقات».
لكن مجرد وثاقة الشعبي لا تكفي، فإن الشعبي لم يسمعه من رسول الله ﷺ، ولا حدث عن راوٍ أخذه عنه، فالرواية منقطعة.
حدثنا أحمد قال:
ثنا محمد بن خلف العسقلاني، قال: نا معاذ بن خالد، قال: نا زهير بن محمد، قال: نا صالح بن أبي صالح، أنه سمع نافع بن جبير يحدث عن أبيه قال: «بينما أنا مع النبي ﷺ في الحجر، إذ مرّ الحكم بن أبي العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمّتي مما في صُلب هذا».
وهذا حديث منكر كما قال عبد الله بن أحمد: «سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر» (علل الحديث 2/415).
ورواه الطبراني وقال:
«لا يُروى هذا الحديث عن جبير إلا بهذا الإسناد، تفرّد به محمد بن خلف».
(المعجم الأوسط 4/38).
وفي العلل عن عبد الله:
«سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هو منكر». قلت: لعلّه أراد تفرد محمد بن خلف بالرواية، وإلا فمحله الصدق كما في التقريب (2/72).
ويبدو أن الآفة أيضًا من معاذ بن خالد، فإنه لين الحديث وله مناكير، وزهير بن محمد يروي عنه أهل الشام المناكير، وروى عنه ما لم يتفرد به. فتبقى الآفة في معاذ والله أعلم.
وقد وردت روايات أخرى تفيد بأن النبي ﷺ لعن الحكم بن أبي العاص ومن يخرج من صلبه، لكنها متناقضة ولم تصح كما أفاد الذهبي.
منها:
روى مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن قيس بن حبتر، عن بنت الحكم بن أبي العاص: أنها قالت لأبيها الحكم: «ما رأيت قومًا كانوا أسوأ رأيًا وأعجز في أمر رسول الله ﷺ منكم يا بني أمية».
مقالات السقيفة ذات صلة: |
رواية: سماك بن حرب نزل إلى الفرات وأغمس رأسه فردّ بصره الفرق بين الكرامة عند أهل السنة والولاية التكوينية عند الشيعة |
فقال: لا تلومينا يا بنية، إني لا أحدثك إلا ما رأيت بعيني هاتين.
• قلنا: والله ما نزال نسمع قريشًا تقول: يصلي هذا الصابئ في مسجدنا، فتواعدوا له ليأخذوه، فلما رأيناه سمعنا صوتًا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتّت علينا، فما عقلنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله. ثم تواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه، فرأيت الصفا والمروة التقتا، إحداهما بالأخرى، فحالَتا بيننا وبينه، فوالله ما نفعنا ذلك. قال أبو أحمد العسكري: بعضهم يقول هو الحكم بن أبي العاص، وقيل إنه رجل آخر يُقال له الحكم بن أبي الحكم الأموي.
ومسلمة بن علقمة ضعيف. ضعفه أحمد، وقال الحافظ: «صدوق له أوهام». وداود بن أبي هند: ثقة متقن، اختلط بأخرة.
ومنها:
أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن أحمد الحريري، أخبرنا أبو إسحق البرمكي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن خلف بن بخيت الدقاق، أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود، أخبرنا محمد بن خلف العسقلاني، أخبرنا معاذ بن خالد، أخبرنا زهير بن محمد، عن صالح بن أبي صالح، حدثني نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: «كنّا مع النبي ﷺ، فمرّ الحكم بن أبي العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمتي مما في صُلب هذا، وهو طريد رسول الله ﷺ، نفاه من المدينة إلى الطائف، وخرج معه ابنه مروان، وقيل إن مروان وُلِد بالطائف» (أسد الغابة 2/40).
وقد قيل إن الحكم بن العاص هو الذي كان ينظر إلى النبي ﷺ من خلال ثقوب باب منزله عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت لعن النبي ﷺ له.
فكان ماذا؟
لم ننكر أنّ بعض الناس قد عاصروا النبي ﷺ ولعنهم. فإذا ثبت النص فيهم خرجوا عن قاعدة العدالة. لكن الله تعالى زكّى في القرآن المهاجرين والأنصار، والرافضة يخالفون القرآن فيطعنون فيهم ويكفّرونهم، ويدّعون – كما قال الكليني – أنهم ارتدوا.
ومن وصف القرآن بالتحريف فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، غير أن الرافضة يأبون لعنه، بل يزعمون أنهم «مجتهدون»! وبذلك يتضح أن الرافضة يطعنون في مَن زكّاهم الله، ويزكون من لعنهم رسول الله ﷺ، مثل المجلسي والكليني.
فالكليني عندهم «ثقة الإسلام»، وشيخه علي بن إبراهيم القمي.
ولا نزال ننتظر أن يزكّوا المهاجرين والأنصار، لكننا نشك أن يفعلوا.