في مواضع الخلاف الفقهي، تظهر رحمة هذه الشريعة وسَعة صدرها في التعامل مع مسائل الاجتهاد، ومن أبرز ما تنزّل عليه هذا الخلاف: مسألة البسملة، وموضعها من القرآن الكريم.
هل "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من كل سورة؟ أم آية فقط في الفاتحة؟ أم ليست آية أصلًا إلا في سورة النمل؟ هذه الأسئلة مثّلت نقطة خلاف بين كبار الأئمة والقراء والمفسرين، فكلٌ له أدلته وفهمه للنصوص، لكنهم اتفقوا على أن هذا الخلاف لا يوجب تكفيرًا ولا تضليلًا.

تناول العلماء مسألة "البسملة" بتفصيل كبير؛ هل هي آية من القرآن؟ وإذا كانت كذلك، فهل هي من الفاتحة فقط؟ أم من كل سورة عدا براءة؟ أم أنها ليست آية إلا في سورة النمل فقط؟
وقد انقسمت الآراء إلى ثلاثة أقوال رئيسية:

القول الأول:-

أن البسملة ليست آية من القرآن الكريم مطلقًا[1]، إلا في سورة النمل فهي بعض آية منها. وانما كتبت البسملة في أوائل السور للاستفتاح بها، والابتداء والتبرك بها، والتيمن، والفصل بين السور.

وهذا القول يُروى عن قراء ائمدينة والبصرة والشام[2]، وهو قول الإمام مالك[3]  وعبد الله بن معبد[4]، ونسب لأبي حنيفة، وبعض أصحابه[5]، والأوزاعي[6]، وحُكي رواية عن الإمام أحمد[7]، لكن قال ابن تيمية [8]: «لايمنح هذا عنه، وإن كان قولًا في مذهبه».

واختاره الباقلاني [9].

ولم أقف على دليل صحيح صريح لهذا القول، ولا على تعليل مقبول إلا التمسك بأدلة وأحاديث لا تدل عليه، كحديث أنس بن مالك وعائشة - رضي الله عنهما -[10] وما في معناهما من الأدلة، التي فيها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه كانوا يستفتحون القراءة، أو الصلاة بالحمد لله رب العالمين...، وسيأتي ذكر هذه الأحاديث - إن شاء الله - في القول الرابع من هذه الأقوال، وبيان أن غاية بما تدل عليه في هذه الأحاديث أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة، لا أنهم يتركونها، وليس عدم الجهر بها، مما يخرجها من القرآن، كما زعم بعض من ذهب إلى هذا القول[11].

وقد احتج ابن العربي[12] لهذا القول بأن مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان الإمام مالك لم يقرأ فيه أحد قط (بسم الله الرحمن الرحيم) اتباعًا للسنة. وهذا إن أراد به أنهم لا يجهرون بها فصحيح، وإما أن أراد أنهم لا يقرؤونها أبدًا لا سرًا ولا جهرًا فالجواب عنه هو الجواب عن احتجاجهم بحديث عائشة وأنس المشار إليهما وأن ذلك محمول على أنهم يسرون بها لا أنهم يتركونها.

كما احتج الباقلاني[13] والقرطبي[14] لهذا القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية[15] عن هذا بقوله:

«والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها ليست منه - ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله... «ويكفي في ضعف هذا القول: أن فيه القول على الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله، على سبيل التبرك[16].

قال الشيخ أحمد شاكر:

 في تعليقه على «سنن الترمذي»، بعد أن ذكر الخلاف في هذه المسألة: «القول الذي زعموا نسبته إلى مالك، ومن معه في أنها ليست آية أصلا قول لا يوافق قاعدة أصولية ثابتة، ولا قراءة صحيحة».

 

من مختارات السقيفة:

¨   شبهة أن ابن عمر كان يقول في الآذان حي على خير العمل

¨   موقف عمر سهم أهل البيت من الخمس

¨   نظرية الخُمس بين الفقيه والإمام الغائب

¨   روايات الشيعة التي تنقض عصمة النبي صلى الله عليه وسلم

¨   كل راية قبل القائم طاغوت

¨   من هم الشيعة الاثنا عشرية؟

¨   موقف أهل البيت من الصديق

¨   معنى الرجعة عند الامامية

 

 

القول الثاني:

 

 

أنها آية من سورة الفاتحة فقط.

وهذا القول مروي عن طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير[17]، وأكثر القراءة والفقهاء من أهل مكة[18] والكوفة[19]، وهو قول الشافعي[20]، ورواية عن الإمام

أحمد[21]، وروي عن إسحاق[22]، وأبي عبيد[23]، وأبي ثور[24]، ومحمد ابن كعب القرظي، والزهري[25]، وعطاء[26]، وغيرهم[27].

واستدلوا لهذا القول بأدلة منها:

1-  إثباتها في المصاحف مع الفاتحة، وعدها من آياتها.

2-  ما جاء عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سُئلت عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كان يقطع قراءته آية آية، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم»[28].

ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة مع الفاتحة، قالوا: فدل هذا على أنها آية منها. والجواب من هذا: أنه لا يلزم من قراءتها مع الفاتحة أن تكون منها، إذ لو لزم هذا للزم أن تكون آية من كل سورة، لأنها تقرأ مع كل سورة، كما هو مثبت معلوم.

3-  وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سئل عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كانت مداً، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم». رواه البخاري[29].

قالوا: فقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للبسملة بالمد تدل على أنها آية من القرآن إذ لو لم تكون آية من القرآن لما قرأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمد كما يقرأ القرآن. وهذا الاستدلال صحيح في الرد على الذين ينفون أن تكون البسملة آية من القرآن مطلقا - لكن لا يلزم من قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بالمد، كما يقرأ القرآن أن تكون آية من سورة الفاتحة[30]، ولا من غيرها، فالحديث يدل على أنها آية تقرأ - وهذا صحيح - لا أنها آية من سورة الفاتحة، أو من غيرها من السور.

4-  حديث نعيم بن المجمر قال: «صليت وراء أبي هريرة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ (ولا الضالين) فقال: «آمين»، فقال الناس: «آمين»، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -».

ووجه استدلالهم من هذا الحديث أن أبا هريرة قرأ البسملة مع أم القرآن، ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في آخر الحديث: «والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول لله - صلى الله عليه وسلم -». وهذا الحديث ضعفه جمع من أهل العلم[31].

وأيضًا لو صح هذا الحديث فليس فيه ما ينص صراحة على أن البسملة من الفاتحة، وغاية ما فيه أن يكون أبو هريرة قرأ البسملة مع الفاتحة سواء كان ذلك جهرًا أم سرًا، ولا يلزم من قراءتها مع الفاتحة على أي حال أن تكون منها - كما تقدم في الجواب عن استدلالهم بحديث أم سلمة.

5-  ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأتم الحمد، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم، أحد آياتها»[32].

والصواب أن هذا الحديث موقوف من كلام أبي هريرة، كما ذكر أهل العلم [33] قال الزيلعي[34] بعد ما صوب وقف الحديث على أبي هريرة «فإن قيل أن هذا موقوف في حكم المرفوع إذ لا يقول الصحابي إن البسملة إحدى آيات الفاتحة إلا عن توقيف أو دليل قوي ظهر له قلت: لعل أبا هريرة سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأها فظنها من الفاتحة، وأبو هريرة لم يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: هي إحدى آياتها وقراءتها قبل الفاتحة لا يدل على ذلك».

وقال أيضًا: فالمحفوظ الثابت عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الحمد لله هي أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم» [35].

القول الثالث:

أنها آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة، وقد نسب هذا القول لقراء مكة والكوفة وفقهائهما[36]

وحكي هذا القول عن ابن عباس وابن عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة، من الصحابة، ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد ابن جبير ومكحول والزهري (انظر «تفسير ابن كثير» 1: 35).

 

 

[1] انظر «الإقناع في القراءات السبع» لابن الباذش 1: 163.

[2] انظر «معالم التنزيل» 1: 38، «الكشاف» 1: 4، «تفسير النسفي» 1: 1.

[3] انظر «الاستذكار» 2: 175، «أحكام القرآن» لابن العربي 1: 2، «المحرر الوجيز» 1: 52، «الجامع لأحكام القرآن» 1: 93.

[4] انظر «المغني» 1: 152.

[5] انظر «شرح معاني الآثار» 1: 204 - 205، «نصب الراية» 1: 327، وانظر «الكشاف» 1: 4، «المحرر الوجيز» 1: 52، «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 22: 34، 438، «تفسير النسفي» 1: 1.

[6] انظر «المغني» 2: 152.

[7] انظر «المغني» 2: 151 - 152.

[8] في «مجموع الفتاوى» 22: 434، 438.

[9] انظر «مجموع فتاوى ابن تيمية» 22: 432.

[10] انظر «الاستذكار» 2: 174 - 175، 182، «الجامع لأحكام القرآن» 1: 95.

[11] انظر مثلًا «شرح معاني الآثار» 1: 204 - 205.

[12] انظر مثلًا «أحكام القرآن» 1: 3.

[13] انظر مثلًا «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 22: 432.

[14] في «الجامع لأحكام القرآن»: 1: 93.

[15] في «مجموع الفتاوى» 22: 432 - 433.

[16] انظر «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 22: 406، وانظر 432 - 433.

[17] أخرجه عبد الرازق- في الصلاة- باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم- الأثر 2609.

[18] انظر «الاستذكار» 2: 173، «أحكام القرآن» لابن العربي 1: 2، «مجموع الفتاوى» 22: 441، «النشر» 1: 270.

[19] انظر «تفسير الطبري» 1: 109، «البحر المحيط» 1: 31، «الجامع لأحكام القرآن» 1: 94، «النشر» 1: 270.

[20] انظر «الأم» 1: 107، «المجموع» 3: 332 - 333، «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 1: 35، «كتاب البسملة الصغير» لأبي شامة 2/ أ، «رسالة الصبان الكبرى في البسملة» 27/ أ.

[21] انظر «التحقيق» 1: 292، «زاد المسير» 1: 7، «المغني» 2: 151، «مجموع الفتاوى» 22: 435، 442.

[22] انظر «الاستذكار» 2: 176، «المغني» 2: 151.

[23] انظر «الاستذكار» 2: 176، «المغني» 2: 151، «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 22: 434، 440.

[24] أخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» 2: 176.

[25] أخرجه عنهما أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 114 - 115.

[26] انظر «الاستذكار» 2: 176.

[27] انظر «مجموع الفتاوى» 22: 351.

[28] أخرجه أبو داود - في الحروف = الباب الأول- حديث 4001، وأحمد 6: 302، والدارقطني في الصلاة - وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، والجهر بها 1: حديث 37 وقال: «إسناده صحيح وكلهم ثقات»، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» حديث 2927.

[29] في فضائل القرآن - باب مد القراءة- حديث 5046. وقد أخرجه مختصرًا دون ذكر «ثم قرأ إلى آخره» أبو داود- حديث 1465، والنسائي حديث 970، وابن ماجه حديث 1353، وأحمد 3: 119، 192.

[30] انظر «فتح الباري» 9: 91.

[31] سيأتي تخريج هذا الحديث، وذكر كلام أهل العلم في تضعيفه في المبحث السابع من هذا الفصل.

[32] هذا الحديث أخرجه الدراقطني - في الصلاة - باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم- حديث 36، والبيهقي= في الصلاة- 2: 45 - كلاهما من طريق أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال أبو بكر الحنفي: «ثم لقيت نوحًا، فحدثني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يرفعه» وقد ذكر الزيلعي كلام الأئمة عليه وصوب وقفه «نصب الراية» 1: 343.

[33] انظر «التحقيق» 1: 293 - 298.

 

[34] في «نصب الراية» 1: 343 - 344.

[35] سيأتي تخريجه في المبحث الأول من الفصل الأول من الباب الثاني.

[36] انظر «الكشاف» 1: 4، «تفسير النسفي» 1: 1.