كتاب العقد الفريد في الميزان (2)

لم يكن العبثُ بالسنة النبوية ولا الطعنُ في الصحابة الكرام رضي الله عنهم أمرًا عارضًا في تاريخ الأمة، بل هو منهجٌ قديمٌ سلكته الفرق الضالة، وعلى رأسها الشيعة، التي اتخذت من الأدب والتاريخ والنوادر ستارًا لتمرير الأحاديث الباطلة، وتشويه سِيَر خِيار هذه الأمة. ومن أخطر ما أُدخل على المسلمين في هذا الباب كتاب «العقد الفريد» لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، الذي ذاع صيته بين الناس، بينما حذّر منه المحققون من أهل السنة لما اشتمل عليه من أخبار مكذوبة، وطعنٍ صريح في الصحابة، وميلٍ واضح للتشيّع.

ويبرز في هذا الكتاب النَّيلُ من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ومن معه من كبار الصحابة، عبر رواياتٍ لا إسناد لها، ولا يقبلها عقل، ولا يشهد لها نقلٌ صحيح. ومن هنا تأتي أهمية هذا المقال، الذي يضع كتاب العقد الفريد في الميزان العلمي، ويكشف زيف ما نُسب فيه إلى الصحابة، ويبيّن أن هذا المسلك ليس من الإسلام في شيء، بل هو امتداد لمنهج فرقة ضالة خالفت سبيل المؤمنين.

رابعاً: كذبه على معاوية ـ رضي الله عنه ـ:

إن أكثر من نيل منه من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ.

فقد نقل عن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ الذي دعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب) رواه أحمد.(اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به )

رواه الترمذي وشهد له حبر الأمة ابن عباس بالفضل والفقه:

وقال عنه الإمام ابن كثير: (هو أول ملوك الإسلام وخيارهم) وغير ذلك مما لا يسعه هذا المقال ولا يخفى على مسلم ويكفيه شرفا إنه ممن تكحلت عينه برؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبته رضي الله عنه وأرضاه.

فقد نقل عنه (صاحب العقد) إنه كان يمنع الغناء لإنه كان لا يستهويه ولا تميل له نفسه أي كان يتبع هواه!

وحين سمع أحد المغنين يُلحن أبياتا يعشقها قلبه أجازه وأمر بأن تضرب الأوتار!

وهذا نص الخبر:

"عن الأصمعي قال: كان معاوية يعيب على عبد الله بن جعفر سماع الغناء فأقبل معاوية عاما من ذلك حاجا فنزل المدينة فمر بدار عبد الله بن جعفر فسمع عنده غناء على أوتار...

فوقف ساعة يستمع وهو يقول: أستغفر الله! أستغفر الله!

فلما انصرف من آخر الليل مر بداره أيضا فإذا عبد الله قائم يصلي فوقف ليسمع قراءته فقال الحمد لله!

ثم نهض وهو يقول: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ (التوبة: من الآية102)

فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعد له طعاما ودعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعا يده في الطعام فحرّك أوتارك وغن فلما وضع معاوية يده في الطعام حرّك ابن صياد أوتاره وغنى بشعر عدي بن زيد وكان معاوية يعجب به.

يا لُبيني أوقدي النــــارا = أن من قد تهوين قد حارا

رُبّ نار بتُّ أرمقــــها = تقضم الهندي والغـارا

ولها ظبي يؤججـــــها = عاقد في الخصر زنارا

قال: فأعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طربا

فقال له عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان فهل ترى بأسا؟

قال لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان.

"وذكر أيضا أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ طرب طربا شديدا وجعل يحرك رجله.

العقد الفريد (7 / 19 ـ 21).

وهذا الذي كذب على أمير المؤمنين معاوية يعلم أن بينه وبين ابن جعفر صحبة فاستغل ذلك ليغتر الناس بكذبه.

وهذا باب قد أكثر أهل الأهواء طرقه كمن روى عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ

إنه قال لابن عباس ـ رضي الله عنها ـ: يابني هاشم، مالكم تصابون في أبصاركم؟

فقال: وأنتم تصابون في بصائركم!

وذلك إنه لم يوجد ثلاثة مكافيف على نسق، غير عبد الله، والعباس، وعبد المطلب).

فقال الأديب الخويطر ـ حفظه الله ـ معلقا على هذا الخبر المختلق:

(لقد أغرى الكاذب علمه بأن عبد الله والعباس والمطلب كانوا مكافيف بالتتابع أن يركب القصة لعدم رضاه على معاوية فأراد أن يظهره بمظهر المعتدي المهزوم).

وقبل ذلك قال أن النص مختلق والكذب فيه واضح لان الجانبين على خلق يأبى لهما أن ينزل إلى هذا المستوى من السباب والعلاقة الحذرة بينهما والاحترام المتبادل يجعل من المستحيل أن يقع شيء مما قيل إنه حدث )

ملء السلة من ثمر المجلة: (1/ 130، 131)

 

وهذه سبل الأدباء الضلال لتركيب الكذب وتلبيس الحق غير لباسه.

وذكر ـ صاحب العقد ـ أيضا عن أمير المؤمنين معاوية ـ رضي الله عنه ـ إنه كان يأمر أصحابه بلعن أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ على المنابر وفي المجتمعات وفي المجالس ونقل عنه خطبا بذيئة وألفاظا سوقية وبعض المواقف التي يترفع عنها ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ.

وكذلك أساء في نقولاته عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ وكذلك ما نقله عن أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ وهو يتلفظ بألفاظ سافلة وكلام قبيح في أكثر من موضع فلا أدري أين ذهب تشيعه!

خوضه في الفتنة:

ولم يتورع صاحب العقد من الخوض في الفتنة التي وقعت بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتي أمرنا بالإمساك عنها وساق أخبار مكذوبة على الصحابة وقد بين زيفها وضلالها علماء المسلمين الثقات وأئمة الدين الأثبات ومنهم ابن كثير ـ عليه رحمة الله وذب الله عن وجهه النار كما ذب عن أصحاب نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ

فقال نور الله ضريحه ـ:

(والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها ومبادها وقويمها).

البداية والنهاية(7/158).

فماذا نقول عن صحابة رسول الله ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وقد قال الله عز وجل فيهم:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثر السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً الفتح:29

فماذا نقول عن صحابة رسول الله ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ بعد قول الله عز وجل؟!:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل أن السيف أمضى من العصا

وليعلم أولوا الألباب أن هذه الأخبار وخاصة التي تمس الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والتي هدفها الحط من شأنهم ينكرها من في رأسه ذرة عقل ويمجها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

وهذا غير رأيه في أن الغناء مباح وأن النبيذ غير محرم..

قال الشيخ مشهور ـ حفظه الله تعالى ـ:

(وقد ذكر الأستاذ رشيد رضا في تفسير المنار(5/85) أن هناك شبهة للقائلين بحل الخمر في الأديان السابقة وهي: أن الأنبياء قد شربوها ثم قال: كما نقل عن ذلك صاحب العقد الفريد وأمثاله من الأدباء الذين يعنون بتدوين أخبار الفساق والمجان وغيرهم).

كتب حذر منها العلماء ( 2 / 44 ).

مصادر ابن عبد ربه غير موثوقة:

ويبطل عجبك إذا عرفت أن مصادر ابن عبد ربه غير موثوقة فقد قال الشيخ مشهور:

فمن مصادر ابن عبد ربه في كتابه هذا (التوراة) و(الإنجيل) و(كليلة ودمنة) وما شابهها...

وقد حذر الأستاذ منير محمد الغضبان من هذا الكتاب وقال بإنه لم يكن قصد لكاتبه عند كتابته إلا استهواء الجماهير عند جنوح الخيال وتعقد القصة وحلها بالشكل المثير للعاطفة والمحرك للنفسية....

شأنهم بذلك شان القصاصين الذين كانوا يجلسون في المساجد فيصنعون ما يشاءون من الأحاديث سواء كانت توافق الدين أو تخالفه...

وكان أكبر همهم أن يصغي أكبر عدد من الناس لأحاديثهم وقد بين الأستاذ عبد الحليم عويس أن هذا الكتاب وغيره قد أوجد حاجزا سميكا حال دون الوصول إلى كثير من الحقائق المتصلة بتاريخ بني أمية في المشرق.

ويقول الدكتور الطاهر أحمد مكي في دراسة له عن هذا الكتاب:

وهو لا يمحص الأخبار ولا يقف منها موقف الفاحص المدقق وإنما يعرضها كيفما تأتت له ويقول أيضا: ثم يعرض لأشياء هي إلى الخرافات والأساطير أقرب).

كتب حذر منها العلماء (2 /44)

هذه ترجمة على عجل للعقد وصاحبه من كلام العلماء والأدباء الأثبات أهديها لطالب العلم الذي لم يمخر بعد عباب هذا العقد ليكون على بينة وهدى

هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد

المصادر:

الكتاب اشتهر باسم (العقد الفريد) إلا أن بعض المتأخرين ذكر أن اسم الكتاب هو(العقد) وأما(الفريد) فهو من إضافة النساخ المتأخرين..

وكذلك زيد عليه بعد وفاة المؤلف وكل يلحظ ذلك عندما يقرأ تراجم الخلفاء في الجزء الخامس من العقد.

وقد ذكر الشيخ سلمان آل مشهور هذه القضية في كتابه كتب حذر منها العلماء (1/56)

الشبهة:

يدّعي بعضهم أن ما ورد في العقد الفريد من أخبار عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إنما هو من باب الأدب والتاريخ، وإنه لا حرج في قبوله، بل يستدلون به للطعن في معاوية والصحابة.

الرد على الشبهة

الدين لا يُؤخذ من كتب الأدب، وإنما من القرآن والسنة الصحيحة بالأسانيد.

الروايات المذكورة بلا إسناد، وقد صرّح أهل العلم بعدم ثبوتها.

ما نُسب إلى معاوية رضي الله عنه يناقض ما ثبت من فضله، ودعاء النبي ﷺ له، وشهادة كبار الصحابة والعلماء.

الطعن في الصحابة طعنٌ في الدين، لأنهم نقلة الشريعة.

منهج المؤلف في الخوض في الفتنة مخالف لأمر السلف بالإمساك عنها.

اعتماد المؤلف على مصادر غير إسلامية، كالتوراة والإنجيل وكليلة ودمنة، يسقط الثقة بنقوله.

فالنتيجة: هذه الشبهة باطلة، ولا يصح الاحتجاج بالعقد الفريد في الطعن بمعاوية ولا بغيره من الصحابة، بل الواجب ردّ هذه الأخبار والتحذير منها.