جهود علماء البوسنة و دعاة الإسلام فيها في إحياء السنن و التصدي للبدع
د. أحمد عبد الكريم نجيب
إذا أريد للسنة أن تنبعث من جديد في البوسنة و الهرسك، و أن يعزَّ أهلها، و يظهروا على من ناوأهم، و يصدعوا بدعوتهم في وجوه المخالفين، فلا بد لهم من أن يأتموا بالسلف الصالح y في التمسك بالسنة و الاعتصام بها، و التخلي عن البدع و البراءة من أهلها ، وقد كان لسلفهم مواقف جليلة في هذا المجال ، ومنها:
موقف الشيخ حسن كافي من أهل الأهواء و البدع
عرف الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله تعالى و أتباعه في البوسنة بالتمسك بمنهج السلف الصالح في هذا المجال، و يحسن هنا أن نشير إلى موقفهم هذا ليكون نبراساً يتأسى به من بعدهم.
لقد أكَّد الشيخ حسن كافي رحمه الله في موقفه من أهل الأهواء و البدع على عدة أمور، تعتبر بحقٍ معالم رئيسة في ما يعتقده الشيخ في هذا الباب، و من أبرز هذه المعالم:
1 ) البراءة من البدع و أهلها.
2 ) تقسيم البدع إلى مكفِّرة و غير مكفرة.
3 ) الحكم على الظواهر، و ترك السرائر إلى الله تعالى.
4 ) اعتقاد إمكان اجتماع السنة و البدعة، و الخير و الشر، في الشخص الواحد، و بالتالي فهو يستحق الولاء و البراء معاً بمقدار ما فيه من موجب كلٍّ منهما.
5 ) التفريق بين الكرامات، و بين ما يقع على أيدي أهل البدع من خوارق العادات.
و فيما يلي أقتطف من كلام الشيخ رحمه الله ما يؤكِّد التزامه بهذه القواعد، و الدعوة إلى التزامها قولاً و عملاً:
يقرر الشيخ رحمه الله أن أهل السنة يحكمون على أهل المعاصي، و الأهواء و البدع، بما ظهر من أحوالهم، و يوكلون سرائرهم إلى من يعلم السرَّ و أخفى، و يذهب مذهبهم في ذلك.
و في هذا المعنى جاء قول الإمام الطحاوي رحمه الله: (( و نسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبيُّ معترفين، و بكلِّ ما قال و أخبر
مصدِّقين ))، و قول شارح ( الطحاوية ) الشيخ حسن كافي: (( المراد بأهل القبلة من يدَّعي الإسلام، و يستقبل الكعبة، و لم يكذِّب بشيءٍ مما جاء جاء به الرسول e، و إن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي … فنراعي ظواهرهم، و نكل إلى الله ضمائرهم )) [1].
و لكن هذا القول ليس على إطلاقه، بل هو مُقيَّدٌ بما إذا كانت البدعة غير مكفِّرة، و لذلك عقَّب على كلامه و كلام الماتن المتقدم، بقوله:
(( و في قول الشيخ إشارةٌ إلى أنَّ مجرَّد التوجه إلى قبلتنا، لا يدلُّ على حقيقة الإيمان فإنَّ كثيراً من الناس يتوجهون إلى قبلتنا، و ليسوا على ديننا، كالغلاة الذين يدَّعون نبوة علي t، و كمن يدعي منهم أنه إله، و كالقدريَّة الذين يزعمون وجود كثيرٍ من الأشياء من غير مشيءة الله، و كمن يدَّعي الخالقيَّة لكلِّ فاعلٍ مختار، و كمن يزعم أنَّ صانع العالم جسم على صورة البشر، و كمن يدعي أنَّ المحبة تزيل التكليف و كمن يقول: إنَّ لله حلولاً و اتحاداً بالأنفس، و نحو ذلك من أقاويل أهل الضلالة و الإلحاد )) [2].
و ينكر رحمه الله على غلاة الصوفية و جهالهم، فساد أحوالهم و فعالهم، مع زعمهم أنهم أهل كرامة، و سالكون سبل الولاية، و هم في غاية البعد عنه، فيقول رحمه الله:
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) [3].
و كلُّ من ادعى الكرامة، و لم يسلك سبيل الاستقامة، فهو دعيٌّ، لأنه (( لا يصل أحد إلى الله و رضوانه و جنته و كرامته، إلا بمتابعته الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر، و ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، و الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء، و مشى على الماء، و أنفق من الغيب، و أخرج الذهب من الجيب، فإنه من الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) [4].
و هؤلاء المتنكبون عن طريق الهدى، يجب أن لا يُغترَّ بما قد يجري على أيديهم من أحوال ظاهرها خرق العادة، فهم إلى الأحوال الشيطانية مستدرجون، و عن الشريعة الربَّانية زائغون، و على هذا المعنى يَحمل الشيخ حسن كافي رحمه الله قول عبد الله بن المبارك:
و هل أفسد الدين إلاَّ الملوك و أحبار سـوءٍ و رهبـانـها
فيقرر أن الرهبانية في هذه الأمَّة، يمثلها أهل الجهالة و الضلالة من المتصوفة، بقوله:
(( الرهبان هم جهَّال الصوفيَّة، المعترضون على حقائق الإيمان و الشرع بالأذواق، و المواجيد، و الخيالات الفاسدة، و الكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، و إبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيِّه … و قد قال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق و الكشف، و ظاهر الشرع قدَّمنا الذوق و الكشف. نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين، و العصمة بالله ربِّ
العالمين )) [5].
و يُقابل أهل الضلال و البدع، أهلُ السنة و الجماعة، و هم الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة [6]، التي لم يُغفل الشيخ ذكرها، و بيان صفات أهلها، ليحظى من وفَّقه الله بنهج نهجهم، و الردّ إلى ما كانوا عليه قبل أن يفترقوا، و هم: (( الذين اتبعوا النبي r و كانوا على ملَّته، و دانوا بها، و دعوا سائر الأمم إليها حتى صار إجماعهم حجة من حجج الله، موجبةً للعلم قطعاً من الصحابة و التابعين و من بعدهم )) [7].
و كما تجب البراءة من أولئك الأدعياء و بغضهم، تجب موالاة هؤلاء الأصفياء، و حبهم.
قال حسن كافي الآقحصاري في شرح نص الطحاويَّة: ( نحب أهل العدل و الأمانة ):
(( و هم أهل السنة و الجماعة، و من سلك مسلكهم من المسلمين، و المتمسكون بالعدل من ولاة أمور الدين، فمحبتهم من كمال الإيمان و تمام العبوديَّة، لأنها تتضمن محبة الله و محبة رسوله، لأن الله يحب المحسنين و يحب التوابين، و يحب المتطهرين، و من كمال محبة الله للعبد أن يحب العبد من أحبَّه الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، و يبغض ما يُبغضه، و يوالي من يواليه، و يعادي من يعاديه، فهو موافق لمحبوبه في كلِّ حال )) [8].
و قال في شرح نص الطحاوية: ( نُبغض أهل الجور و الخيانة ):
(( و هم أهل الخلاف و العصيان، و الجائرون من الولاة، و الله تعالى لا يحب الخائنين، و لا يحب المفسدين، و لا يُحب المستكبرين، فنحن لا نحبهم، بل نبغضهم موافقة لله تعالى )) [9].
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة، قد تجتمعان في الشخص الواحد، و كذلك الحب و الكره، فيقول:
(( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة، و سبب الحب و سبب البُغض، فيكون محبوباً من وجه، و مبغوضاً من وجه، و الحكم
للغالب )) [10].
و حيث يتعذَّر على كلِّ أحد التمييز بين الصنفين، فعلى كاهل أهل العلم، المهتمين بالكتاب و السنة، تقع مسؤولية مقارعة أهل الباطل، و التصدي للمبتدعة، و لا يقوى على القيام بهذا الواجب الكفائي، إلا من وفَّقه الله و سدَّده، ليكون من دُعاة السنَّة الذين من أخصِّ صفاتهم، العلم و التثبت، المنافيان للابتداع و التحريف.
يقول الشيخ حسن كافي رحمه الله:
(( و كلَّما بعُد العهد بعد النبي r و أصحابه ظهرت البدع و كثر التحريف إلا أن الله تعالى قد منَّ على أمته بجعل علمائهم، كأنبياء بني إسرائيل، فلا تزال طائفة منهم قائمين على الحق، كما قال عليه الصلاة و السلام: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ) [11]، فعيَّنوا طريق الفرقة الناجية، و بينوا طريق الأمة الهادية، ليحق الحق، و يزهق الباطل، و ليتميز العالم من
الجاهل )) [12].
و يُعرِّف الشيخ حسن كافي " الولي " فيقول:
(( هو العارف بالله و صفاته، حسب ما أمكن، المواظب على الطاعات، المتجنب للمعاصي و الانهماك في اللذات و الشهوات )) [13]، و الوليُّ في نظره (( إنما يستحق الولاية و الكرامة باتباعه نبيَّه r و اقتدائه به في طاعة الله تعالى على
شريعته )) [14].
أما أدعياء الكرامة، و زاعموا الولاية، فقد عرف عن الشيخ صلابة موقفه، في التصدي لهم، و كشف ضلالهم، و بيان فساد ماهم عليه، حيث وضع الميزان الشرعي لتقييم ما هم عليه، بعرضه على الكتاب و السنة، فقال:
(( الواجب عرضُ أفعالهم و أحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قُبِل، و ما خالفها رُدَّ … فلا طريقة إلاَّ طريقة الرسول r، و لا حقيقة إلاَّ حقيقته، و لا شريعة إلا شريعته، و لا عقيدة إلا عقيدته، و لا يصل أحد إلى الله و رضوانه، و جنته و كرامته، إلا بمتابعة الرسول ظاهراً و باطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر، و ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، و الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون وليَّاً و لو طار في الهواء، و مشى على الماء، و أنفق من الغيب، و أخرج الذهب من الجيب، فإنه من الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقرِّبة من سخطه و عذابه )) [15].
و يقول رحمه الله في بيان حال و حكم أدعياء الكرامة و الولاية من غلاة الصوفية و غيرهم:
(( أما الذين يتعبَّدون بالرياضات و الخلوات، و يتركون الجمع و الجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، و هم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، و كذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله، و لم يكن في الصحابة من يفعل ذلك و لو عند سماع القرآن )) [16].
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية و العداوة، قد تجتمعان في الشخص الواحد، و كذلك الحب و الكره، فيقول: (( إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة، و سبب الحب و سبب البُغض، فيكون محبوباً من وجه، و مبغوضاً من وجه، و الحكم للغالب )) [17].
و إلى جانب تحذيره رحمه الله من الحوادث و البدع، فقد كان للشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله موقف صلب في مواجهة الفرق الضالة، و المذاهب البدعيّة، كفرقة الحمزوية – التي سبق ذكرها و بيان موقفه منها، و جهاده في القضاء عليها – و الرافضة التي قال عنها:
(( أصل الرفض إنَّما أحدثه منافقٌ زنديق، قصد إبطال دين الإسلام، و القدح في الرسول، كما فعل بولُص [18]بدين النصارى، و ذلك المنافق هو عبد الله بن سبأ [19]، أراد أن يُفسد دين الإسلام، و يُلقي الفتنة بين المسلمين، فأظهر الإسلام و التنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان و قَتْلِه، ثم لما قدم الكوفة، أظهر الغلو في علي، ليتمكن بذلك من اعتراضه و بلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب، و خبره معروفٌ في التواريخ، أخزاه الله تعالى )) [20].
كما حذر رحمه الله من المقالات الفاسدة و أهلها الذين ابتليت بهم الأمة عبر التاريخ، و بالغ في التحذير منهم، و حكم بكفر من قال بخلق القرآن، و خروجه من الملة [21]، و كذلك من أتى بغيرها من البدع المكفرة.
[1] نور اليقين في أصول الدين ، ص : 183 .
[2] المرجع السابق ، ص : 183 ، 184 .
[3] المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .
[4] نور اليقين في أصول الدين ، ص : 266 .
[5] نور اليقين في أصول الدين ، ص : 153 .
[6] المرجع السابق ، ص : 100 و 268 .
[7] المرجع السابق ، ص : 106 .
[8] المرجع السابق ، ص : 206 ، 207 .
[9] المرجع السابق ، ص : 207 .
[10] المرجع السابق ، ص : 207 .
[11] حديث صحيح : تقدم تخريجه .
[12] نور اليقين ، ص : 100 ، 101 .
[13] المرجع السابق ، ص : 252 .
[14] المرجع السابق ، ص : 253 .
[15] المرجع السابق ، ص : 265 .
[16] المرجع السابق ، ص : 264 – 265 .
[17] المرجع السابق ، ص : 207 .
1 -بولص ، هو : قس يهودي اسمه الأصلي شاؤول ، ولد في طرسوس ، و نشأ في أورشليم ، كان في أول حياته من أشد أعداء المسيحية ، يكيد لها ، ثم تظاهر بالمسيحية و ادعى الانتساب إليها بقصد التحريف فيها ، فاستطاع أن يصل إلى رتبة كبيرة عندهم ، حتى صار من الرسل الملهمين الذين ينطقون بالوحي ، فأدخل المعتقدات الباطلة في المسيحية ؛ كالتثليث ، و ألوهية المسيح ، و غير ذلك من الخرافات و التحريفات .
انظر : منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1 / 29 ، 6 / 428 ، محاضرات في النصرانية ص 81 ، المسيحية لأحمد شلبي ص 90 .
2- عبد الله بن سبأ ، هو : الضال المضل ، رأس الطائفة السبئية ، من غلاة الزنادقة ، أصله من اليمن ، كان يهوديا فأظهر الإسلام ، وطاف ببلاد المسلمين ليفتنهم عن طاعة الأئمة ، دخل دمشق أيام عثمان بن عفان t ، فأخرجوه ، فانصرف إلى مصر ، و جهر ببدعته ، و هو الذي قال بتأليه علي t ، و برجعة النبي r ، و بأن القرآن جزء من سبعة أجزاء ، مات سنة 40 هـ / 660 م
انظر ترجمته في : البدء و التاريخ 5 / 129 ، تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران 7 / 341 ، ميزان الاعتدال
2 / 426 ، لسان الميزان 4 / 292 – 293 .
[20] نور اليقين في أصول الدين ، ص : 251 .
[21] انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : حسن كافي الأقحصاري رائد العلوم العربية و الإسلامية , ص 179 نقلاً عن نسخة خطية لكتاب : روضات الجنات .