تُعدّ قضية الإمام المهدي المنتظر من القضايا المحورية في الفكر الإسلامي، وقد أثيرت حولها العديد من الشبهات والادعاءات، خاصة من قبل بعض الفرق التي تتبنى رؤى مخالفة لأهل السنة والجماعة. من أبرز هذه الشبهات، ادعاء أن علماء من أهل السنة قد اعترفوا بولادة المهدي صاحب السرداب، وهو ما يُروّج له في كثير من الأحيان لتضليل العامة وإيهامهم بوجود توافق بين المذاهب حول هذه المسألة. يهدف هذا المقال إلى تفنيد هذه الشبهة بالدليل والبرهان، وتوضيح حقيقة موقف علماء أهل السنة من هذه القضية، مع التركيز على تحليل الادعاءات المزعومة والرد عليها بشكل مفصل وموثق.

إنّ الإيمان بالمهدي المنتظر هو جزء من عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن هذا الإيمان يستند إلى نصوص شرعية صحيحة، ويختلف في تفاصيله عن التصورات التي تتبناها بعض الفرق الأخرى. فالمهدي عند أهل السنة هو رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً، واسمه يواطئ اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يواطئ اسم أبيه. أما ما يُدّعى من ولادته واختفائه في سرداب، فهو أمر لا أساس له في عقيدة أهل السنة، بل هو من الأمور التي ابتدعتها بعض الفرق.

سنتناول في هذا المقال أبرز الشخصيات التي يُدّعى أنها من علماء أهل السنة وقد اعترفت بولادة المهدي المزعوم، وسنوضح حقيقة موقفهم من خلال أقوالهم الموثقة، مع إبراز التدليس والتضليل الذي يمارسه مروجو هذه الشبهة. كما سنستعرض الآيات القرآنية التي تؤكد على أهمية التثبت من الأخبار وعدم اتباع الظن، وكيف أن هذه الشبهة تتعارض مع المنهج العلمي السليم في البحث والتحقيق.

أولاً: سبط ابن الجوزي وحقيقة موقفه

يُعدّ سبط ابن الجوزي (أبو المظفر يوسف بن قزغلي) من الشخصيات التي يستغلها البعض للادعاء بأن علماء أهل السنة قد اعترفوا بولادة المهدي المنتظر. ولكن عند التدقيق في حاله ومكانته العلمية، يتضح أن هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، بل هو محض تدليس وتضليل. فسبط ابن الجوزي، على الرغم من نسبه إلى الإمام ابن الجوزي، إلا أنه لم يكن على منهج أهل السنة والجماعة في كثير من المسائل العقدية، وقد طعن فيه كبار علماء أهل السنة.

يقول الإمام الذهبي عنه في "ميزان الاعتدال" (7/304) و"سير أعلام النبلاء" (23/297): «يأتي بمناكير الحكايات ولا أظنه ثقة ثم إنه ترفض.. قال الشيخ محي الدين السوسي لما بلغ جدي موت سبط ابن الجوزي قال لا رحمه الله كان رافضيا». هذا القول الصريح من إمام كبير كالذهبي يكشف حقيقة مذهب سبط ابن الجوزي، وأنه كان يميل إلى التشيع، بل وصفه بالرافضي. وهذا يعني أن ما يُنقل عنه في هذا الصدد لا يُعتد به كدليل على موقف أهل السنة، لأنه ليس منهم في هذه المسألة.

إنّ الاعتماد على أقوال شخصيات معروفة بميلها إلى مذاهب مخالفة، ثم نسبتها إلى أهل السنة، هو نوع من التدليس الذي يهدف إلى خلط الأوراق وتشويه الحقائق. وقد حذر القرآن الكريم من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، وأمر بالتثبت من الأخبار، كما في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوٓا۟ أَن تُصِيبُوا۟ قَوْمًۢا بِجَهَٰلَةٍ فَتُصْبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦]. هذه الآية الكريمة تؤكد على ضرورة التحقق من مصدر الخبر وصحة الناقل، وهو ما ينطبق تماماً على حالة سبط ابن الجوزي، الذي وصفه كبار العلماء بأنه "ترفّض".

فإذا كان سبط ابن الجوزي قد ذكر ولادة المهدي المزعوم، فإنه ذكرها من منظور يوافق معتقد الرافضة، وليس من منظور أهل السنة الذين لا يقرون هذه الولادة المزعومة ولا اختفاءه في السرداب. وبالتالي، فإن الاستشهاد بكلامه في هذا السياق هو استشهاد بغير محله، ومحاولة لنسب ما ليس لأهل السنة إليهم

ثانياً: الكنجي الشافعي والاتهامات الموجهة إليه

محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، المتوفى سنة 658 هـ، هو شخصية أخرى يُستشهد بها من قبل مروجي الشبهة للادعاء بأن علماء أهل السنة قد أقروا بولادة المهدي. ولكن، كحال سبط ابن الجوزي، فإن الكنجي لم يكن ممثلاً حقيقياً لمنهج أهل السنة والجماعة، بل كان متهماً بالتشيع والموالاة لأعداء الإسلام.

يُظهر التحقيق في سيرة الكنجي أنه كان رافضياً أو مترفضاً، وهو ما يؤكده اعتراف الرافضي محمد بن أحمد القمي بأنه وجد مقتولاً مبقور بطنه بسبب ميله إلى مذهب التشيع، كما ورد في كتاب "مئة منقبة من مناقب أمير المؤمنين" (ص8). هذا الاعتراف من أحد رموز الرافضة يؤكد انتماء الكنجي لمذهبهم، وبالتالي فإن ما يُنقل عنه لا يمكن أن يُنسب إلى أهل السنة.

الأخطر من ذلك، أن الكنجي كان متهماً بالخيانة والعمالة للتتار، وهو ما ذكره كبار المؤرخين. يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/221) في سياق حديثه عن الحروب مع التتار: «وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً كان مصانعاً للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي كان خبيث الطوية مشرقياً ممالئاً لهم على أموال المسلمين قبحه الله وقتلوا جماعة مثله من المنافقين». هذا الوصف الصريح من ابن كثير، الذي يصف الكنجي بأنه "خبيث الطوية" و"ممالئ للتتار" و"منافق"، يؤكد أنه لم يكن من علماء أهل السنة الذين يُعتد بقولهم، بل كان شخصية مشبوهة في دينها وولائها.

كما أن ابن طاووس، وهو من علماء الشيعة، قد نقل في كتابه "اليقين" (ص115) بعض تبويبات كتاب الكنجي "كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب"، والتي تؤكد ميله الشديد للتشيع، بل ونقل عنه اعتقاده بأن محمد بن الحسن العسكري هو الإمام المهدي المنتظر، كما في "الصراط المستقيم لابن طاووس" (2/219). ووجود كتاب له باسم "البيان في أخبار صاحب الزمان"، والذي يعترف الشيعة بأنه له، كما في كتاب "الغيبة لمحمد بن إبراهيم النعماني" (ص10)، يدل دلالة واضحة على تشيعه وترفضه.

إنّ استغلال الرافضة للفظ "الشافعي" الملحق باسم الكنجي هو محض تدليس وخداع لأبناء السنة، لإيهامهم بأن هذا الشخص كان من أئمة الشافعية، بينما الشافعية وأهل السنة بريئون من معتقداته وأفعاله. فكيف يُمكن أن يُعتبر قول شخص بهذه الصفات دليلاً على إقرار أهل السنة بولادة المهدي المزعوم؟ إنّ هذا يتنافى مع أبسط قواعد البحث العلمي والإنصاف. وقد حذر الله تعالى من الكذب والافتراء، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا﴾ [الإسراء: ٣٦]. وهذا يؤكد على ضرورة التحقق من المعلومات وعدم نشر الأكاذيب والادعاءات الباطلة.

ثالثاً: ابن حجر الهيثمي وتوضيح موقفه

يُحاول البعض أيضاً الاستشهاد بابن حجر الهيثمي (أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي المكي) كأحد علماء أهل السنة الذين اعترفوا بولادة المهدي المزعوم. ويستندون في ذلك إلى ما ساقه في كتابه "الصواعق المحرقة" من أقوال تُشير إلى أن الحسن العسكري سُمّ ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة. ولكن هذا الاستشهاد هو أيضاً محض تدليس، حيث يتجاهل هؤلاء السياق الذي ورد فيه كلام ابن حجر الهيثمي، وتوضيحاته اللاحقة.

إنّ ابن حجر الهيثمي، وهو من كبار علماء أهل السنة، كان يسوق هذه الأقوال في سياق الرد على الرافضة وتفنيد معتقداتهم، وليس في سياق الإقرار بها. والدليل على ذلك أنه عقب على هذه الأقوال قائلاً بأنه قد استوفى الكلام على هذا المهدي في السابق، وأحال من يريد التفصيل إلى ما كتبه. وعند الرجوع إلى ما أحال إليه، يتضح جلياً أنه يطعن في الشيعة لاعتقادهم بولادة هذا المهدي، وبأنه كان إماماً وعمره خمس سنوات.

ينقل ابن حجر الهيثمي عن الإمام السبكي قوله بأن جمهور الرافضة على أن الحسن العسكري لا عقب له، ولم يثبت له ولد. ويُشير إلى أن الرافضة تنازعوا في هذا المهدي المزعوم على عشرين فرقة، مما يدل على اضطراب معتقدهم في هذه المسألة. ثم يوضح ابن حجر الهيثمي بأسلوبه العلمي الرصين أن المقرر في الشريعة المطهرة أن الصغير لا تصح ولايته، فكيف ساغ لهؤلاء الحمقى أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين؟ ويُبيّن أنهم صاروا بذلك ضحكة لأولي الألباب، مستشهداً بالبيت الشعري المعروف:

ما آن للسرداب أن يلد الذي كلمتموه بجهلكم ما آنا

فعلى عقولكم العفاء فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا

هذه الأبيات الشعرية، التي أوردها ابن حجر الهيثمي، هي خير دليل على سخريته واستهزائه بمعتقد الرافضة في المهدي صاحب السرداب، وتأكيده على بطلان هذا الادعاء. كما أوضح أنهم زعموا وجوده واختفاءه، وأن آخرين منهم كذبوا هذا القول وقالوا بأنه لا وجود له أصلاً. كل هذا يؤكد أن ابن حجر الهيثمي لم يكن معترفاً بولادة المهدي المزعوم، بل كان من أشد المنكرين لها والمفندين لمعتقد الرافضة فيها.

إنّ التلاعب بالنصوص واجتزاء الأقوال من سياقها هو أسلوب متبع من قبل مروجي الشبهات، وهو ما حذر منه القرآن الكريم في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَاۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلْعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥]. وهذا ينطبق على من يأخذ جزءاً من كلام العالم ويترك باقيه الذي يوضح حقيقة موقفه، بهدف تضليل الناس.

المصادر:

القرآن الكريم.

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين الذهبي.

سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي.

مئة منقبة من مناقب أمير المؤمنين، محمد بن أحمد القمي.

البداية والنهاية، ابن كثير.

اليقين في إمرة أمير المؤمنين، ابن طاووس.

الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، ابن طاووس.

كتاب الغيبة، محمد بن إبراهيم النعماني.

الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، ابن حجر الهيثمي.

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة.

الكامل في التاريخ، ابن الأثير.

العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي.

تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين الذهبي.