تُعَدُّ مسألة خلود النار أو فنائها من القضايا العقدية التي أثارت جدلاً واسعًا عبر القرون، حيث حاول بعض أهل الأهواء إلصاق القول بفناء النار بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيّم رحمهما الله، واتخذها الشيعة وغيرهم مطعنًا على أهل السنة والجماعة. والحقيقة أنَّ هذه المسألة قد حُسِم أمرها في مذهب السلف الصالح، حيث أجمعوا على أن الجنة والنار دارا جزاء وقرار، لا تفنيان ولا تبيدان، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين.
غير أنَّ اللبس جاء من ذكر الإمام ابن القيّم لأقوال في بعض كتبه حول فناء النار، بل وميله إليها في مرحلة ما، بينما صرّح في مؤلفات أخرى متأخرة بموافقة مذهب أهل السنة في القول بأبديتها. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد ثبت يقينًا عنه نفي القول بفناء النار، بل نصّ في مواضع عديدة من كتبه على خلودها ودوامها. ومن هنا يتضح أن ما يُشيعه البعض من نسبة هذا القول إلى ابن تيمية أو ابن القيّم فيه تدليس أو جهل بحقيقة أقوالهما، وهو ما يتطلب توضيحًا علميًا رصينًا يحسم هذه الشبهة ويبين الحق فيها.
هل قول ابن القيِّم في فناء النار صحيح؟
يأتي الشيعة فيقولون: إنَّ ابن تيميَّة رحمه الله يقول بفناء النار، وبذلك خالف كتاب الله.
الرَّد:
فإنَّ الصَّحيح الراجح أنَّ الجنَّة والنَّار لا تفنيان ولا تبيدان، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة. وانظر الفتوى رقم: (1676).
هذا، ولا تَصحُّ نسبة القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى؛ فإنَّ الراجح عنده أبديَّتها وعدم فنائها، وقد نصَّ على ذلك رحمه الله في أكثر من موضع من كتبه.
فقد قال رحمه الله تعالى في كتابه درء تعارض العقل والنقل:
«وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنَّة والنَّار آخر، وإنَّهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنَّة لا يزالون في الجنَّة يتنعَّمون، وأهل النَّار في النَّار يُعذَّبون، ليس لذلك آخر».
وقال رحمه الله أيضاً في كتابه بيان تلبيس الجهمية:
«وقد اتَّفق سلف الأمة وأئمَّتها وسائر أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ من المخلوقات ما لا يُعدَم ولا يفنى بالكلِّيَّة، كالجنَّة والنَّار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومَن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنَّة رسوله وإجماع سلف الأمة وأئمَّتها». اهـ.
وانظر كلام شيخ الإسلام أيضاً في مجموع الفتاوى (8/304)، (18/307)، وفي غير ما موضع من كتبه الأخرى.
وسبب الغلط على شيخ الإسلام ونسبة القول بفناء النار إليه أنَّ ابن القيِّم في كتابه حادي الأرواح قد ذكر الأقوال في فناء النار وعدمه، وأشار إلى أنَّ ابن تيميَّة قد حكى بعض هذه الأقوال، والتي منها القول بفناء النار، وليس في ذلك ما يدل على نسبة هذا القول الباطل لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، فقد حكى هذه الأقوال غيره من أهل السُّنَّة والجماعة كشارح الطحاويَّة، وحكاية شيخ الإسلام لأقوال الطوائف مشحونة بها مؤلَّفاته، ولكن للردِّ عليها لا لتقريرها، وهذا واضح ولا يحتاج إلى مزيد بيان.
وأمَّا الإمام ابن القيِّم، فإنَّه له قولين:
الأوَّل: مال فيه إلى القول بفناء النار، وقوَّاه وأيَّده بالأدلَّة، وذلك في كتابه حادي الأرواح وشفاء العليل. كما أنَّه توقَّف في المسألة في كتابه الصواعق المرسلة.
الثاني: وهو الموافق لمذهب أهل السُّنَّة، وهو القول بأبديَّة النار وعدم فنائها، وذكر ذلك منصوصاً عليه في كتابيه الوابل الصيِّب وطريق الهجرتين.
من مقالات السقيفة:
حديث "اعرضوه على القرآن" بين التحريف والبطلان حديث «كتاب الله وسنتي» بين التشكيك الشيعي وتوثيق أهل العلم المقدمة |
فقد قال في الوابل الصيِّب:
«وأمَّا النار فإنَّها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين، فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يُركَم الشيء المتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنَّم مع أهله فليس فيها إلا خبيث. ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيِّب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة؛ فإنَّه لا يبقى في جهنَّم من عصاة الموحِّدين أحد، فإنَّه إذا عُذِّبوا بقدر جزائهم أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنَّة، ولا يبقى إلا دار الطيِّب المحض ودار الخبيث المحض». اهـ.
وعلى هذا، فإنَّ إطلاق القول بأنَّ ابن القيِّم يقول بفناء النار غلطٌ عليه، إذ تبيَّن لك أنَّ له قولين، وإنَّما البحث هو في أيِّ القولين هو المتأخِّر الناسخ للأوَّل.
ولقد غلب بعض الباحثين الظنَّ بأن ما قاله ابن القيِّم في (الوابل الصيِّب) و(طريق الهجرتين) ناسخٌ لما ذكره في (حادي الأرواح) و(شفاء العليل) و(الصواعق المرسلة)، وأيَّد هذا الاستنتاج ببعض الحجج، انظرها في كتاب (كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار) لعلي الحربي، طبعة دار طيبة.
هذا، وإنَّ القول بفناء النار قد أُثِر عن بعض السَّلف، وهم: عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري. وهذه الآثار إمَّا أنَّها لا تَصحُّ نسبتها إليهم، أو أنَّها محمولة على وجه آخر غير القول بفناء النار. وانظر مناقشة هذه الآثار وإبطال الاستدلال بها في (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز (2/651، 652) في الحاشية، طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الأرناؤوط.