يُعَدّ حديث النبي ﷺ: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي» من النصوص الجامعة التي تبين للأمة مصدر الهداية بعد وفاة الرسول ﷺ، وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً، ثم وصله غيره، وقد دار حوله جدل طويل بين أهل السنة والشيعة. فالشيعة حاولوا تضعيفه والاعتماد بدلًا منه على رواية «كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، ليجعلوا العترة في مقام السنة النبوية. بينما أكد أهل السنة أن القرآن والسنة هما الأصلان الثابتان، وأن العترة – إنما شأنها شرف النسب – لا أن تكون مصدر تشريع مستقل. المقال يكشف حقيقة الرواية، يبين درجتها، ويعرض أقوال الأئمة كابن عبد البر والسيوطي وغيرهما، مع الرد على استدلالات الرافضة التي تعارض السنة وتُقدِّم العترة عليها.
تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى الطَّلْحِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا أَبَدًا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ».
قَامَتْ قِيَامَةُ الرَّافِضَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا:
هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُعْضَلِ لِأَنَّهُ مِنْ بَلَاغَاتِ مَالِكٍ (الْمُوَطَّأُ، رَقْمُ 3).
تَمَسَّكَ الرَّافِضَةُ بِعِلَّتِهِ وَضَرَبُوهُ بِحَدِيثِ (كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي).
خُذُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ:
· قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي" (مُسْلِمٌ، 1847).
· قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي" (مُسْلِمٌ، 3435 وَ 1847).
· "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي"
مقالات السقيفة ذات صلة: |
- حديث النهي عن كتابة الحديث: بين ضعف السند وصحة البيان - الشيعة: بَنُو أُمَيَّةَ هُمُ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ وأنها الزَّقُّوم |
· (مُسْنَدُ أَحْمَدَ، 17184). فَلِمَاذَا ذَكَرَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ سُنَّةَ الْعِتْرَةِ؟
· "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (الْبُخَارِيُّ، 5063؛ مُسْلِمٌ، 2487).
· "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ" (مُسْلِمٌ، 1078).
· الْمَهْدِيُّ يَؤُمُّنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "(وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ)، فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (مُسْلِمٌ، 224)
· قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ" (مُسْلِمٌ، 1046 و654).
وَفَاتَهُمْ أَنَّ اسْتِنْكَارَهُمْ لِلَفْظِ (وَسُنَّتِي) فِيهِ إِنْكَارٌ لِلسُّنَّةِ، بِالرَّغْمِ مِنْ صِحَّةِ سَنَدِ قَوْلِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عِنْدَهُمْ: «كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» (قَالَ الْمَجْلِسِيُّ: صَحِيحٌ 1/229، وَقَالَ الْبَهْبُودِيُّ: صَحِيحٌ 1/11).
فَلَمْ يَقُلْ: مَرْدُودٌ إِلَى الْعِتْرَةِ.
وَنَعُودُ إِلَى الرِّوَايَةِ (كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي). فَنَقُولُ: الرِّوَايَةُ غَيْرُ مُتَّصِلَةِ الْإِسْنَادِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَصَلَهَا مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (تَنْوِيرُ الْحَوَالِكِ 2/308).
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «مُرْسَلَاتُ مَالِكٍ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُسْنَدَةٌ» (1/38).
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: «مَا مِنْ مُرْسَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَّا وَلَهُ عَاضِدٌ أَوْ عَوَاضِدُ. فَالصَّوَابُ إِطْلَاقُ أَنَّ الْمُوَطَّأَ صَحِيحٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ»
(تَنْوِيرُ الْحَوَالِكِ 1/6).
وَإِلَيْكُمْ وَصْلُ الْحَافِظِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِلرِّوَايَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّيْبُلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْفَرَائِضِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُنَيْنِيُّ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
(التَّمْهِيدُ 24/331 وَكِتَابُ الِاسْتِذْكَارِ 8/265).
وَفِي الرِّوَايَةِ ضَعْفٌ، فَإِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ: «أَخْطَأَ مَنِ اتَّهَمَهُ بِالْكَذِبِ» كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي (التَّقْرِيبِ، تَرْجَمَةٌ رَقْمُ 5613). وَفِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَقَبْلَ الْكَلَامِ عَنِ الرِّوَايَةِ نَسْأَلُ سُؤَالَيْنِ:
أَوَّلًا: أَلَا يَكْفِينَا قَوْلُ اللَّهِ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾؟ فَمَا وَجْهُ التَّعَلُّقِ بِضَعْفِ الرِّوَايَةِ؟ بَلْ حَسْبُنَا أَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ثَانِيًا: مِنْ أَيْنَ حَصَلَتِ الْعِتْرَةُ عَلَى السُّنَّةِ؟ أَخَذُوهَا عَنِ النَّبِيِّ أَمْ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِهِمْ سُنَّةَ النَّبِيِّ؟ هَلْ صَارَتْ ذَوَاتُهُمْ هِيَ السُّنَّةَ بَدَلًا مِنْ أَقْوَالِ النَّبِيِّ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي نُطْلِقُ عَلَيْهَا "السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ"؟
إِنْ كَانُوا أَخَذُوا السُّنَّةَ عَنِ النَّبِيِّ فَهُمْ فَرْعٌ عَنِ النَّبِيِّ، فَلِمَاذَا تَنْهَوْنَنَا عَنِ الْأَخْذِ مِنَ الْأَصْلِ وَتُوجِبُونَ الْأَخْذَ مِنَ الْفَرْعِ؟ وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا السُّنَّةَ عَنِ النَّبِيِّ فَمَا فَائِدَةُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ؟
تَأَمَّلُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَجْعَلُ الْعِتْرَةَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ السُّنَّةِ، بَلْ تَجْعَلُ السُّنَّةَ هِيَ الْمِيزَانَ فِي قَبُولِ أَحَادِيثِ الْعِتْرَةِ أَوْ رَفْضِهَا:
قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: «لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثًا إِلَّا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِدًا مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ دَسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا أَبِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، فَإِنَّا إِذَا حَدَّثْنَا قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»
(بِحَارُ الْأَنْوَارِ 69/211).
تَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ.
(يُرْجَعُ لِحِوَارِ الشَّيْخِ الْبَغْدَادِيِّ بِكِتَابِ "اللَّهِ وَسُنَّتِي" لِلْفَائِدَةِ)