استكمالًا للمقال السابق بعنوان: «هل قول ابن القيِّم في فناء النار صحيح؟»، والذي تناولنا فيه أبرز الأقوال والمرويات المتعلقة بمسألة فناء النار، وما نُسب إلى الإمام ابن القيم رحمه الله من ترجيح هذا القول أو الميل إليه، نتابع في هذا الجزء الثاني بسط الأدلة ومناقشة ما أورده العلماء قديمًا وحديثًا في هذا الباب، مع بيان مواطن الاتفاق والاختلاف، وتوضيح موقف أهل السنة والجماعة من هذه المسألة العقدية الدقيقة.

يأتي الشيعة فيقولون:

 إنَّ ابن تيميَّة رحمه الله يقول بفناء النار، وبذلك خالف كتاب الله.

فضيلة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي حفظه الله من كل سوء

السؤال:

ما رأي فضيلتكم في هذه الفتنة التي ظهرت وانتشرت بين أوساط الشباب لا سيما صغار السن منهم، وهي القول بفناء النار أو عدم فنائها؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.

الجواب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد:

فإنَّ هذه المسألة قد بُحثت وقُتلت بحثاً منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الهدى والدين وعلماء سلف الأمة المتقدمين منهم والمتأخرين.

اختلف السلف فيها على قولين على ضوء ما جاء في الكتاب والسنَّة:

القول الأول: عليه جمهور سلف الأمة، وهو خلود النار ودوامها وعدم فنائها.

القول الثاني: لبعض السلف، وهو أنَّ النار تبقى أحقاباً ثم تفنى، ويخرج منها أهلها إذا تهذَّبوا وتطهَّروا، وزال عنهم دَرَن الكفر بما ذاقوه من العذاب.

وكلٌّ من القولين مأثور عن السلف، ويُنظَر في أدلَّة الفريقين، فأيُّها كان أقوى دلالة كان هو القول الراجح.

أدلة القول الأول (قول الجمهور):

§                  قوله تعالى: ﴿وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ.

§                  وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً، أي ملازماً دائماً.

§                  وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ.

§                  وقوله تعالى: ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ.

§                  وقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً.

§                  وقوله تعالى: ﴿لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.

§                  فإذا كان الأمر كذلك ـ أعني أن المسألة فيها قولان للسلف ـ فمن اجتهد وهو من أهل الاجتهاد وأخذ بأحد القولين فإنه لا يُنكَر عليه ولا يُضلَّل ولا يُبدَّع، لأن السبَّ والتجريحَ وتضليلَ الآخرين وهم ليسوا كذلك فيه إثمٌ ومعصية، ويترتَّب عليه الاختلافُ والفُرقةُ التي نهى اللهُ عبادَه عنها، ويفرح به أعداءُ الجميع من يهودٍ ونصارى وعَلمانيين وحداثيين ومنافقين وغيرهم من أصناف الكفار الذين يسرُّهم كثيراً حصولُ الاختلاف والفرقة بين المسلمين.

§                  وإنّي أهيب بأبنائي من شبابٍ، وإخواني من طلبة العلم أن يكفُّوا عن إثارة هذه الفتنة، وأن يوجِّهوا أقلامهم إلى الردّ على أعدائهم كلهم من يهود ونصارى وعَلمانيين وغيرهم من أنواع الكافرين، فإن ذلك أحرى بأن تتَّحد كلمةُ الأمّة وعلمائها، وأن يُفوِّتوا بذلك على الأعداء فرصتهم.

§                  هذا أُمْلي في أبنائي الشباب وإخواني طلبة العلم والمعنيين في هذه المسألة أن يستجيبوا لندائي هذا، ويُوقِفوا هذه الأعمال التي لا يستفيد منها إلا العدو.

§                  نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويُعلي كلمته ويجمع على الحق كلمة المسلمين، إنّه على كل شيء قدير، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أملاه
حمود بن عقلاء الشُّعَيبي
18/4/1421 هـ

 

(قدوم كتائب الجهاد لغزو أهل الزندقة والإلحاد. القائلين بعدم الأخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد) تأليف الشيخ عبد العزيز بن فيصل الرّاجحي

فصل: قال الإباضي ص14 15 في سياق نقل تناقض أهل السنة ـ بزعمه ـ في اعتقادهم:

 القول بفناء النار:

حيث قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزيّة بذلك، وخالفهما بقيّة أرباب هذه النحلة، وإن كانوا لم يُفسِّقوهما، بل قالوا بأنهما مأجوران على اجتهادهما، وهذا من العجائب الغرائب! كيف يقولون بعذرهما في هذه المسألة من المسائل القطعيّة، باتفاق الأمّة قاطبة؟ وذلك لأن أدلتهما قاطعة لا تحتمل الجدل، وإليك بعض هذه الأدلة). اهـ

ثم ساق سبعةً وعشرين دليلاً من القرآن على ذلك في صفحة كاملة وبعض صفحة، مع أنّه حريص كعادته على عدم الإطالة، لذا لم يذكر لنا حديثاً واحداً يُناقض اعتقادَنا فيه، وهنا يذكر سبعةً وعشرين دليلاً.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن ما نَسَبه هذا الضالُّ لشيخ الإسلام باطلٌ وكذبٌ وزور، بل شيخ الإسلام يقول بخلافه. قال شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (18/307) بعد أن سُئل عن صحة حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً:

((سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء: النارُ وساكنها، واللوحُ، والقلمُ، والكرسيُّ، والعرشُ)) هذا الخبر بهذا اللفظ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو من كلام بعض العلماء. وقد اتفق سلفُ الأمة وأئمتُها، وسائر أهل السنة والجماعة، على أنّ من المخلوقات ما لا يُعدَم ولا يفنى بالكلية، كالجنة والنار والعرش وغير ذلك. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم. وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة وأئمتها). اهـ

وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً في ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/358):
وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنّهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعّمون، وأهل النار في النار يعذَّبون، ليس لذلك آخر، ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية). اهـ

وقال أيضاً رحمه الله في ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/157) بعد كلام طويل:
(ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءً مطلقاً). اهـ

وما ذكرتُه فيما سبق عن شيخ الإسلام أنه لا يقول بفناء النار يعلمه هذا الإباضي، فقد قال في حاشية ص14:

(كما نُسِب إليه جماعة من العلماء ـ أي القول بفناء النار ـ وقد وافق الجمهور في بعض كتبه، ولعل له في المسألة رأيين). اهـ

وأقول: إن العمدة في هذا ما قاله شيخ الإسلام في كتبه، أمّا ما نسبه أعداؤه إليه فلا حُجّة فيه، وإن صحّ عنه فالحق من قوليه ما وافق الدليل، وهو القول بعدم فناء النار.

ثانيها:
أن نِسبة هذا القول للعلّامة ابن القيم باطلٌ أيضاً، بل هو يقول بخلافه.

قال ابن القيم رحمه الله في ((طريق الهجرتين)) ص254 255 في فصل:

 أن الله خلق الدارين وخصّ كل دار بأهل:

(واللهُ سبحانه مع كونه خالقَ كلّ شيء، فهو موصوفٌ بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمتُه سبحانه أن خلق دارَ طالبي رضاه، العالمين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، وهي الجنة، وجعل فيها كلَّ شيء مرضي، وملأها من كلِّ محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كلِّ طيب، من الذوات والصفات والأقوال.

وخلق داراً أخرى، لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، والعاملين بأنواع مخالفته، والقائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم، وأودعها كلّ شيء مكروه، وسجنها مليءٌ من كلِّ شيءٍ مؤذٍ ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلّ خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دار القرار). اهـ.

وقال أيضاً رحمه الله في ((الوابل الصيّب)) ص49:

ولمّا كان الناس على ثلاث طبقات:

§                  طيّب لا يشينه خبث.

§                  وخبيث لا طيب فيه.

§                  وآخرون فيهم خبثٌ وطيب.

كانت دورهم ثلاث:

§                  دار الطيب المحض.

§                  ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان.

§                  ودار لمن معه خبثٌ وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنّه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحّدين أحد، فإنهم إذا عُذِّبوا بقدر جزائهم أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنة، ولا تبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض). اهـ.

وقول العلّامة ابن القيم عن نار عصاة الموحّدين أنّها تفنى أي: يُخرجون منها، ولا يبقى فيها منهم أحد، وهذا دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، ولم يخالف إلا المبتدعة كالخوارج والمعتزلة.

ثالثها:
لو ـ فَرَضْنا ـ صحة القول بفناء النار عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فلابُدَّ من حمله على ما سبق، وأن نار عصاة الموحّدين هي التي تفنى.

كما أنّ شيخ الإسلام لم يصرّح بذلك في شيء من كتبه، بل صرّح بخلافه، وهذا القول الذي نُسب إليه، نسبهُ إليه أعداؤه من أهل البدع، أو بعض من تساهل من أهل السنة، ونسبه إليه بناءً على قول أعدائه، وهو قولٌ باطلٌ كما سبق، والله تعالى أعلم.