تُعد مسألة لعن يزيد بن معاوية من القضايا التي أثارت جدلاً واسعًا بين العلماء والفقهاء عبر العصور، إذ استند بعضهم إلى روايات نسبوها إلى الإمام أحمد وغيره في إثبات جواز لعن يزيد، بينما ردّ آخرون هذه الروايات واعتبروها غير صحيحة سندًا أو دلالة. وقد ارتبطت هذه القضية بتاريخ أحداث الفتنة الكبرى ومقتل الحسين رضي الله عنه، مما جعلها محل نقاش واسع في كتب التاريخ والعقيدة.

وفي هذا المقال نستكمل عرض ما أورده العلماء حول هذه المسألة، مع تحليلٍ للروايات والطرق التي وردت، وبيان موقف كبار الأئمة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم، لتتضح الصورة بعيدًا عن الهوى والتحامل.

 

استدلوا بجواز لعنه بما رُوي عن الإمام أحمد:

 

وهي التي أخرجها أبو يعلى الفراء بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إن قومًا يُنسبون إلى تولية يزيد، فقال: يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله؟ فقلت: ولم لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتني ألعن شيئًا؟ ولم لا يُلعن من لعنه الله في كتابه؟ فقرأ قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.

قلت: وهذه الرواية لا تصح للعلل التالية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "هذه الرواية التي ذُكرت عن أحمد منقطعة ليست ثابتة عنه، ثم إن الآية لا تدل على لعن المعيّن".

ثبت عن الإمام أحمد النهي عن اللعن، كما في رواية صالح نفسه، أن أحمد قال: "ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟" لما قيل له: ألا تلعن يزيد؟ وحين سأل عصمة بن أبي عصمة أبو طالب العكبري الإمام أحمد عن لعن يزيد، قال: "لا تتكلم في هذا. قال النبي ﷺ: «لعن المؤمن كقتله»، وقال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» وقد كان يزيد فيهم، فأرى الإمساك أحبّ إليّ".

قال الخلّال: "وما عليه أحمد هو الحق من ترك لعن المعيّن، لما فيه من أحاديث كثيرة تدل على وجوب التوقي من إطلاق اللعن".

قال تقي الدين المقدسي: "إن المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلّال: اللعن المطلق لا المعيّن، كما قلنا في نصوص الوعد والوعيد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار، فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، وأن الكافرين في النار، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة، ولا نشهد بذلك لمعيّن إلا من شهد له النص أو شهدت له الاستفاضة على قول. ثم إن النصوص التي جاءت في اللعن جميعها مطلقة، كالراشي والمرتشي وآكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه".

اختلاف الحنابلة رحمهم الله في تجويز لعن يزيد إنما جاء باعتماد بعضهم على رواية صالح المنقطعة، والتي لا تثبت عن الإمام أحمد رحمه الله ، لذلك اعتمد أبو يعلى على تلك الرواية فألّف كتابًا ذكر فيه بيان ما يستحق من اللعن، وذكر منهم يزيد، وتابعه في ذلك ابن الجوزي رحمه الله فألف كتابًا سمّاه الرد على المتعصب العنيد المانع من لعن يزيد، وأباح فيه لعن يزيد بن معاوية. ولم يقتصر ذلك على بعض فقهاء الحنابلة، بل امتد إلى غيرهم، فتابع السيوطي ابن الجوزي في ذلك، وإلى ذلك ذهب ابن حجر رحمه الله وذكر أن الإمام أحمد يجيز لعن يزيد، بينما شذّ أبو المعالي حينما نقل الاتفاق على جواز لعن يزيد بن معاوية.

استدلوا بجواز لعنه بأنه كان يقارف المسكرات، وينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويدع الصلوات:

نقل الطبري روايتين عن أبي مخنف. ونقل البلاذري عدة روايات عن الواقدي. ونقل ابن عساكر وابن كثير عن محمد بن زكريا الغلابي نصًا واحدًا. ونقل البيهقي وابن عساكر وابن كثير رواية واحدة من طريق الفسوي. ونقل ابن كثير رواية واحدة عن أبي مخنف. ونقل الطبري وخليفة بن خياط وأبو الحسن العبدي وابن كثير والذهبي وابن حجر على رواية جويرية بن أسماء عن أشياخ أهل المدينة. ونقل ابن سعد عن الواقدي نصًا واحدًا. ونقل البياسي عن أبي مخنف نصًا واحدًا. ونقل ابن عساكر عن عمر بن شبة باتهام يزيد بشرب الخمر.

قلت:

 مما سلف بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل تلك الروايات يكمن في الواقدي، وأبي مخنف، وعوانة بن الحكم، ورواية عمر بن شبة.

فأما الروايات التي من طريق الواقدي وأبي مخنف فهما متروكا الحديث.

وأما عوانة بن الحكم فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: "فكان يضع الأخبار لبني أمية".

وأما رواية عمر بن شبة التي تشير إلى اتهام يزيد بشرب الخمر في حداثته، فقد تكفل ابن عساكر رحمه الله في ردها فقال: "وهذه حكاية منقطعة، فإن عمر بن شبة بينه وبين يزيد زمان".

أقوى ما يتعلق به المتهمون يزيد بشرب الخمر روايتان:

الرواية الأولى:

أخرجها ابن عساكر وغيره من طريق محمد بن زكريا الغلابي، في أن يزيد كان يشرب الخمر في حداثته، فأرشده أبوه إلى شربها ليلًا فقط!!

وهذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا للعلل التالية:

في سندها محمد بن زكريا الغلابي، قال عنه الدارقطني: "كان يضع الحديث"، وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء، وساق له حديثًا في ميزان الاعتدال، وقال: "فهذا من كذب الغلابي".

في سندها ابن عائشة راوي الخبر، وهو محمد بن حفص بن عائشة، فقد ذكره أبو حاتم والبخاري وسكتا عنه، فهو مجهول عندهما كما قرر ذلك ابن القطان في كتابه بيان الوهم والإيهام.

لم تحدد المصادر تاريخ وفاة ابن عائشة، غير أن ابنه عبد الله الراوي عنه توفي سنة 228هـ، وبهذا فإن ابن عائشة ولد تقريبًا بعد المائة من الهجرة، ومن ثم تكون الرواية مرسلة.

من ناحية المتن: كيف يرضى معاوية رضي الله عنه لولده بشرب الخمر، ويشجعه عليها ليلًا، وهو الصحابي الجليل وكاتب الوحي، وهو نفسه راوي الحديث: "من شرب الخمر فاجلدوه".

قال الشيباني حفظه الله : ومن الغريب أن ابن كثير رحمه الله بعد إيراده لهذا الخبر تعقبه بقوله: "قلت: وهذا كما جاء في الحديث من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل"، ويفهم من تعقيبه كأنه مؤيد لهذه الرواية التي لا تحظى بأي نسبة من الصدق.

الرواية الثانية:

رواية يعقوب بن سفيان البسوي:

 سمعت ابن عفير، أخبرنا ابن فليح أن عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه، وأحسن جائزته، فلما قدم المدينة قام إلى جنب المنبر وكان مرضيًا صالحًا. فقال: ألم أجب؟ ألم أكرم؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكرًا. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة فخلعوه.

قلت: هذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا للعلل التالية:

ابن فليح هو يحيى بن فليح بن سليمان المدني، قال عنه ابن حزم: "مجهول"، وقال مرة: "ليس بالقوي".

ابن فليح وأبوه لم يدركا هذه الحادثة، فالأب ولد سنة 90هـ تقريبًا، وتوفي سنة 168هـ، ومن هنا يتضح أن بين مولد أبيه والحادثة مفاوز طويلة، ومن ثم تبقى الرواية منقطعة.

عندما ذهب عبد الله بن مطيع إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده، فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه ملازمًا للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا، فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.

محمد بن الحنفية أخو الحسين بن علي، وقد قتل أخوته وأقاربه في كربلاء، وليس من المعقول أن يقف مع يزيد، خاصة إذا علم أنه كان يشرب الخمر ويترك الصلاة.

كذلك أقام علي بن الحسين طويلًا عند يزيد (قرابة الشهر) بعد مقتل والده وأقاربه في كربلاء، ومع ذلك لم نجد رواية واحدة عنه يتهم فيها يزيد بشرب الخمر.

الصحابيان الجليلان النعمان بن بشير وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما من الذين كانت لهم صلة قوية بيزيد، ولم يذكرا عنه شيئًا من ذلك.

لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "ولم يكن يزيد مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه".