في كثير من الخطابات والمناقشات الإسلامية، يُطرح اسمُ «الفقير» بمعانٍ متعددة: فَيُراد به مَن لا يملك قوت يومه، وقد يُراد به من ابتغى الفقر من الزهد أو التصوّف. ولهذا يَسْتَحِقُّ أن نعيد النظر في معنى هذا المصطلح عند العلماء، وما ورد في الكتاب والسنة بشأنه، وما جعل الشرع للفقراء منزلة ووظائف، وما التداخل أو الاختلاف بين الفقير والصوفي، مع وقوف على مقام التقوى والفضل.

في هذا المقال نقدّم عرضاً منضبطاً لمفهوم الفقير في النصوص الشرعية، وتمييزه عند الأصوليين والمتصوفة، مع بيان أن الأفضليّة ليست في الظاهر بل في التقوى والعمل.

أولًا: مفهوم «الفَقير» في النصّ الشرعي

اسم «الفقير» ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن المراد به في ذلك غالبًا «الفقير المضادّ للغنى» — أي من لا يبلغ النصاب — لا بمعنى الزهد الصوفي الخالص.

قال النبي ﷺ في الحديث:

«لا تحلّ الصدقة لغنيٍّ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارمٍ، أو غازيٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ تُصدَّق عليه منها فأهدى منها لغنيٍّ»

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وأُعِلَّ بالإرسال.

وفي رواية أخرى:

«لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سويٍّ» رواه أحمد في مسنده

وهذان الحديثان يبيّنان أن الغني أو القوي المكتسب لا تُحلّ له الصدقة أو الزكاة — أي أنه لا يُتقبّل إعطاؤه الصدقة من الأموال الخاضعة للزكاة — بناءً على النصوص الشرعية.

وقد ورد في القرآن وصف للفقراء الذين هم من أهل الصدقات، في قوله تعالى:

﴿ وما تنفِقوا من خيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ[البقرة: 273]

من مختارات السقيفة:

¨   شبهة أن ابن عمر كان يقول في الآذان حي على خير العمل

¨   موقف عمر سهم أهل البيت من الخمس

¨   نظرية الخُمس بين الفقيه والإمام الغائب

¨   روايات الشيعة التي تنقض عصمة النبي صلى الله عليه وسلم

¨   كل راية قبل القائم طاغوت

¨   من هم الشيعة الاثنا عشرية؟

وفي قوله تعالى:

﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا - ﴿ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

وهذه الآية تفيد أن الفقراء هم الذين أُحصروا في سبيل الله فلا يقدرون على «ضربٍ في الأرض» أي السفر للتجارة أو الكسب، ويُحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وتُعرف علاماتهم، ولا يلحّون في السؤال.

كما ورد في موضع آخر في القرآن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، قوله تعالى:

﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكُمْ ۗ وَأَرْسَلْنَاكُمْ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا[الأنفال: 41]

وقد بيّن المفسرون أن بعض هذه الأموال تُصرف للفقراء المهاجرين الذين أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم، أولئك هم الذين يُبتغَى من الله فضلاً ورضوانًا، وهم الصادقون في التصدِّي للفقر

الفقراء في النصوص قد يكون بينهم من هو أفضل حالًا وجوارًا إلى الله من بعض الأغنياء، ولا يُقاس الفضل بالمال، وإنما بالتقوى والعمل الصالح.

وقد نُقل عن كثير من علماء الفقه أن الفقراء يُسبقون الأغنياء إلى الجنّة — لأن عليهم لا حساب لزكاتهم — بينما الأغنياء يُحاسبون، فإن كان حسناتهم أرجح كانوا في درجات أعلى، وإن خُصّروا عن ذلك فكانوا أدنى.

ثانيًا: الفقير بين الفقهاء والصوفية

عند الفقهاء كالإمام مالك، والشافعي، وأحمد — يَرَوْن أن الملاك في استحقاق الزكاة هو أن يكون مَن لا يملك النصاب، فإذا بلغ المال نصاب الزكاة صار غنيًّا لا يُحلّ له أخذ الصدقة، بل الزكاة واجبة عليه.

وهذا يختلف عن مَن يُراد به في اصطلاح المتصوفة، حيث يُطلق «الفقير» على من اتّخذ حالًا روحيّة، يكنيها أحيانًا بتجريد القلب، أو الحرص على الزهاد والتواضع، وقد يُجمع أن هذا الفقر التصوفي ليس بالضرورة أن يلازم الضيق المادّي.

وبناء على هذا الاصطلاح الصوفي، فقد تنازع العلماء والمتصوّفة في من هو الأفضل: الفقير أم الصوفي؟ فذهب طائفة إلى ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي، ونحوهم، وذهب آخرون إلى ترجيح الفقير، وفضلت غالبية من في الزوايا والطرق تسمية «الفقير».
والتحقيق أن الأفضل هو أتقاهما لله: فإن كان الصوفي أكثر تقوى وأعمل بما يُحِبُّ الله من فعل المحبوب وترك المذموم فهو أفضل، وإن كان الفقير أعمل به فهو الأفضل، فإذا اتّفقا في العمل والتقوى استويا في المنزلة، لأن الفضل بالعمل وليس بالمظهر.

وهكذا فإن «أولياء الله» هم المؤمنون المتّقون، سواء سُمِّي بعضهم فقيها أو صوفياً أو تاجراً أو عاملاً أو غير ذلك، بشرط أن يكونوا أهل تقوى واتباع.

قال الله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[يونس: 62]

وفي حديث صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال النبي ﷺ:

« فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِن سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ »

وقد بين هذا الحديث أن من ربَّه الله بمحبة تكون حياته وبركته بيد الله: سمعه، وبصره، وقدرته عنده، وأن الله لا يتردَّد في شيء إلا في قبض روح عبده المؤمن.

ويُقسِّم العلماء المتقين إلى أصناف: من التزم بالفرائض وتفانى فيها، ومن تجاوزها بالنوافل حتى أحبه الله، وهذان الصنفان ذُكيا في القرآن في مواضع متعددة، كما في قوله تعالى:
﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ[فصلت: 1013]

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ ﴿ فَإِنَّهُمُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ ﴿ وَعَيْنًا يَشْرَبُونَ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ ﴿ أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ

ففي هذه التراكيب القرآنيّة إشارات إلى من يُقرَّبون إلى الله بفضل عملهم وتقواهم، سواء أُطلق على البعض اسم فقيه أو مسبّق بالنوافل أو غيره.

خاتمة

جاء في النصّ الشرعي أن «الفقير» في غالب الظن يُقصد به مَن لا يملك النصاب، وهو مستحقّ للزكاة والصدقة، ويرفض أن يُعطى الغني من تلك الأموال إلا في حالات مخصوصة.
أما في الفكر الصوفي، فالفقر يُصبح حالة روحية يعتنقها البعض، وقد يُستخدم اصطلاح «الفقير» بمعنى أوسع يشمل الزهد والتقوى.

لكن الحق أن الفرق بينهما ليس في اللقب، بل في التقوى والعمل الصالح. فالجميع — فقيرًا كان أو صوفيًا أو غير ذلك — من أولياء الله إذا اجتمع فيهم الإيمان والعمل الحسن، وكانوا اتقوا الله، وأخلصوا.

نسأل الله أن يُحسّن تديُّننا، ويهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا من أوليائه المقربين.

المصادر:

1)   تفسير ابن كثير، تفسير سورة البقرة الآية 273

2)   تفسير الطبري، تفسير سورة البقرة

3)   الحديث «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » رواية أحمد وأبو داود وابن ماجه

4)   الحديث «لا تحل الصدقة لغني ولا لذِي مِرَّةٍ سويٍّ»