تمثل السنة النبوية الشريفة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وهي الأساس الذي قامت عليه شريعة الإسلام وحياة المسلمين العملية والروحية. غير أن الفرق الباطنية المنحرفة – وعلى رأسها الشيعة الإمامية – لم تقتصر على الطعن في كتاب الله عز وجل بادعاء التحريف، بل تجاوزت ذلك إلى الطعن في السنة المطهرة، فوضعت الروايات ونشرت الأباطيل التي تستهدف إسقاط حجيتها ونزع الثقة برواة الحديث من الصحابة رضوان الله عليهم. ولما كان من المستحيل عليهم رد جميع الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ وصرفها عن ظاهرها، اخترعوا مبدأ "ارتداد الصحابة" بعد وفاة الرسول ﷺ، فأسقطوا بهذا الزعم الجائر كل ما نقله جمهور الصحابة عن النبي الكريم، ولم يستثنوا إلا عدداً يسيراً من الصحابة ثم قلصوه حتى لم يبق في رواياتهم سوى أفراد معدودين. وهكذا سعى القوم إلى هدم السنة النبوية من أساسها، ليبقى الناس أسرى لما يختلقونه من أخبار وأقوال منسوبة زوراً إلى الأئمة.
عقيدة الشيعة في السنة النبوية:
إذا علمت بأن القوم قد تبنوا هذا الاعتقاد في القرآن الكريم، وصرفوا جميع الأصوات التي شذت عن معتقدهم فيه بحجة التقية، فإن الأمر كان أيسر عليهم فيما عدا ذلك، فإكمالاً لمخططهم الذي من أجله وضعوا مبدأ التقية - وهو إبعادهم عن سائر المسلمين - عمدوا إلى السنة المطهرة المصدر الثاني من مصادر التشريع عند المسلمين - لإسقاطها، وحيث إن الأمر لم يكن باليسير عليهم أن يردوا كل هذه الألوف المؤلفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصرفها عن ظاهرها، ذهبوا إلى القول بارتداد جل الصحابة رضي الله عنهم؛ ليضمنوا بهذا رد جميع مروياتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحجة عدم جواز أخذ الأحاديث عن غير المؤمنين العدول، حتى قال كاشف غطائهم بأن ما يرويه مثل أبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمران بن حطان الخارجي، وعمرو بن العاص، ونظائرهم، ليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة[1].
اعتقاد الشيعة بردة الصحابة رضي الله عنهم:
◘ تبدأ هذه الفرية بالقول بأن الصحابة رضوان الله عليهم قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدين، فقد رووا عن الباقر أنه قال: إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل جاهلية[2].
◘ وقال - كما يزعمون - الناس صاروا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة من اتبع هارون عليه السلام ومن اتبع العجل[3].
مختارات من مقالات السقيفة |
- هل ينفع النبي عندكم أيها الشيعة؟ - الكذب والغيبة عند الشيعة من مفطرات الصيام - إلزام (إسحاق هو ذبيح الله وليس اسماعيل عليهما السلام) |
◘ ثم جاءت روايات أخرى أكثر دقة، حيث استثنت البعض من إطلاقات وعموميات هذه النصوص، فرووا عن الصادق أنه قال: الولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم واجبة، مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر وجابر بن عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان وأبي الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن الصامت وعبادة بن الصامت وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي سعيد الخدري ومن نحا نحوهم وفعل مثل فعلهم[4].
◘ ثم جاءت روايات استثنت الكثير ممن ورد ذكرهم في الروايات السابقة، حيث عز على واضعيها ان يجدوا هذا العدد من الصحابة رضـي الله عنهم لا زال على الإيمان، فقلصوا العدد إلى أربعة، وهم المقداد بن الأسود، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم[5].
ثم أسقط عمار بن ياسر رضي الله عنه، فرووا عن الباقر أنه قال: كان الناس أهل ردة.
◘ وفي رواية: ارتد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة. فقال الراوي: ومن الثلاثة؟ قال: المقداد، وأبو ذر، وسلمان الفارسي[6].
وعن المفضل قال:
عرضت على أبي عبد الله أصحاب الردة، فكلما سميت إنساناً قال: أعزب، حتى قلت: حذيفة؟ قال: أعزب، قلت: ابن مسعود؟ قال: أعزب، ثم قال: إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شيء فعليك بهؤلاء الثلاثة: أبو ذر وسلمان والمقداد[7].
وعن حمران بن أعين قال:
قلت لأبي جعفر: جعلت فداك، ما أقلنا، لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها. فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟! المهاجرين والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بيده - ثلاثة. فقلت: جعلت فداك، ما حال عمار؟ قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان بايع وقتل شهيداً، فقلت في نفسي: ما شيء أفضل من الشهادة؟ فنظر إلي فقال: لعلك ترى أنه مثل الثلاثة؟ هيهات، هيهات[8]!
ثم أُسقط الجميع سوى المقداد، فرووا عن الباقر أنه قال:
إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، وفي رواية: ما بقي أحد إلا وقد جال جولة إلا المقداد بن الاسود، فإن قلبه كان مثل زبر الحديد. وفي رواية: فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود[9].
والطريف أن المقداد رضي الله عنه أيضاً لم يسلم، وإن شئت فقل: لم يشأ القوم أن يروا أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شيء من الإيمان، فقد ذكروا أنه لو علم أحدهم بعلم الآخر أو صبره لقتله، فعن جعفر عن أبيه قال: ذكرت التقية يوماً عند علي بن الحسين عليه السلام فقال: والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله[10].
وعن الصادق قال:
علم سلمان علماً لو علمه أبو ذر كفر[11].
وعنه - أيضاً - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسلمان: يا سلمان! لو عرض علمك على مقداد لكفر، يا مقداد! لو عرض صبرك - وفي رواية: علمك - على سلمان لكفر[12].
ورووا أن سلمان دعا أبا ذر رضي الله عنهم إلى منزله، فقدم إليه رغيفين فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلبهما، فقال له سلمان: يا أبا ذر لأي شيء تقلب هذين الرغيفين؟ قال: خفت أن لا يكونا نضيجين. فغضب سلمان من ذلك غضباً شديداً، ثم قال: ما أجرأك حيث تقلب هذين الرغيفين؟! فو الله لقد عمل في هذا الخبز الماء الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكة حتى ألقوه إلى الريح، وعملت فيه الريح حتى ألقته إلى السحاب، وعمل فيه السحاب حتى أمطره إلى الأرض، وعمل فيه الرعد والبرق والملائكة حتى وضعوه مواضعه، وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح، وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟! فقال أبو ذر: إلى الله أتوب وأستغفر مما أحدثت، وإليك أعتذر مما كرهت.
◘ قال: ودعا سلمان أبا ذر رضي الله عنهم ذات يوم إلى ضيافة، فقدم إليه جرابه من كسراً يابسة وبلها من ركوته، فقال أبو ذر: ما أطيب هذا الخبز لو كان معه ملح، فقام سلمان وخرج فرهن ركوته بملح وحمله إليه، فجعل أبو ذر يأكل ذلك الخبز ويذر عليه ذلك الملح ويقول: الحمد لله الذي رزقنا هذه القناعة. فقال سلمان: لو كانت قناعة لم تكن ركوتي مرهونة[13].
وقد نقلنا الرواية بأكملها لما فيها من فوائد لا تخفى على المتدبر. فتأمل!
[1] أصل الشيعة وأصولها لكاشف الغطاء (236)، أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو رية (377)، تنزيه الشيعة الإثني عشرية عن الشبهات الواهية، للتبريزي (1/56، 182)، نظرة عابرة إلى الصحاح الستة، لعبد الصمد شاكر (292).
[2] الكافي، للكليني (8/296)، بحار الأنوار للمجلسي (28/255)، مجمع النورين، لأبي الحسن المرندي (90).
[3] الكافي، للكليني (8/296)، شرح أصول الكافي، لمحمد صالح المازندراني (12/417)، بحار الأنوار للمجلسي (28/254)، تعليقة على منهج المقال، للوحيد البهبهاني (181)، أعيان الشيعة لمحسن الأمين (7/65)، المنتخب من الصحاح الستة، لمحمد حياة الأنصاري (47).
[4] عيون الأخبار (269) الخصال للصدوق (2/153) بحار الأنوار للمجلسي (10/227، 358، 22/325، 27/52، 68/263) نور الثقلين للحويزي (4/258)، مستدرك سفينة البحار، لعلي النمازي (1/202)، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، لهادي النجفي (8/420)، مستدركات علم رجال الحديث، لعلي النمازي (1/25).
[5] بحار الأنوار للمجلسي (22/28/282).
[6] بحار الأنوار للمجلسي (22/333، 351، 352، 440، 28/236، 238، 239، 255، 259، 42/181، 67/164) رجال الكشي (4، 5، 8، 9، 11) تاريخ اليعقوبي (2/116) الكافي للكليني (8/245) الاختصاص للمفيد (6، 10، 70) قاموس الرجال (3/350) البرهان (1/319) تفسير الصافي للفيض الكاشاني (1/389) تأويل الآيات (1/123) نور الثقلين للحويزي (1/396)
[7] السرائر (468) روضة الواعظين (242) بحار الأنوار للمجلسي (22/114، 332، 342)، تفسير العياشي (1/199)، غاية المرام، لهاشم البحراني (4/220)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (577).
[8] الكافي، للكليني (2/244)، شرح أصول الكافي، للمازندراني (9/187)، بحار الأنوار للمجلسي (22/345، 64/164)، ألف حديث في المؤمن، لهادي النجفي (255)، اختيار معرفة الرجال، للطوسي (1/37)، معجم رجال الحديث، للخوئي (9/195)، أعيان الشيعة لمحسن الأمين (7/287)، جواهر التاريخ، لعلي الكوراني (1/27)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (578).
[9] رجال الكشي (7، 8، 11) بحار الأنوار للمجلسي (22/342، 440، 28/239، 260)، الاختصاص للمفيد (9)، مستدرك سفينة البحار، للنمازي (8/424)، معجم رجال الحديث، للخوئي (19/346)، مجمع النورين، للمرندي (92)، نفس الرحمن في فضائل سلمان للنوري الطبرسي (582).
[10] رجال الكشي (8)، بصائر الدرجات، للصفار (45)، الكافي، للكليني (1/401)، بحار الأنوار للمجلسي (2/190، 22/343، 25/347، 108/30، 306)، اختيار معرفة الرجال، للطوسي (1/70)، طرائف المقال، للبروجردي (2/602)، رجال الخاقاني، لعلي الخاقاني (161)، معجم رجال الحديث، للخوئي (9/203)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (21 (140، 223، 225).
[11] الاختصاص للمفيد (12)، بحار الأنوار للمجلسي (22/346)، معجم رجال الحديث، للخوئي (19/347)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (223).
[12] بحار الأنوار للمجلسي (2/213، 22/353، 440)، اختيار معرفة الرجال، للطوسي (1/47)، طرائف المقال، للبروجردي (2/603)، معجم رجال الحديث، للخوئي (9/198، 19/342)، قاموس الرجال، للتستري (10/227)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (222).
[13] عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق (1/58)، بحار الأنوار للمجلسي (22/321، 68/46)، مسند الإمام الرضا (ع)، لعزيز الله عطاردي (1/271)، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، لهادي النجفي (1/316، 9/206)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي (552).