تُعَدّ "التقية" من أكثر العقائد التي دار حولها الجدل في فكر الفرقة الإمامية الاثني عشرية، إذ جعلوها من أصول دينهم وأساس تعاملهم مع مخالفيهم، حتى قال بعض أئمتهم – كما تزعم كتبهم –: «لا دين لمن لا تقيّة له».

وفي هذا المقال نسلّط الضوء على حقيقة هذه العقيدة من خلال تتبّع جميع الروايات التي استندت إليها كتبهم الأصلية، وخاصة الكافي للكليني والخصال وعيون الأخبار للصدوق، مع فحص أسانيدها وفق معايير الجرح والتعديل عندهم أنفسهم.
ونحن في هذا البحث لا نناقش التقية كمسألة فقهية فرعية كما كانت عند السلف الصالح في مواضع الإكراه والخطر، بل نناقشها كأصل عقائدي جعلته الفرقة الإمامية قاعدةً عامة في الدين، بل ديناً بذاته، حتى نسبوها إلى الله عز وجل ورسوله ﷺ.وسيتضح من خلال هذه الدراسة أن هذه الروايات، على كثرتها، لا يثبت منها شيء صحيح باعتباراتهم الرجالية، وأن محاولات كبار علمائهم – كالسيد الخوئي والسبحاني وغيرهما – لتقويمها، كانت اجتهادات متكلفة تهدف إلى إنقاذ الموروث من الانهيار، رغم ما فيه من ضعف الأسانيد واضطراب المتون ومخالفة صريحة للقرآن والسنة والعقل.

ونحن في هذا الباب - إن شاء الله - سنورد جميع ما وقفنا عليه من روايات في باب التقية من طرق الشيعة، ثم ننظر في أسانيدها لنرى هل يصح منها شيء باعتبارات الصحة التي مرت بك آنفاً، ناهيك عن وجوب التواتر الذي يراه الشيعة في مرويات عقائدهم.

الرواية الأولى:

الكليني: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وغيره، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا.. [القصص:54]، قال: «بما صبروا على التقية ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [القصص:54]، قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة» [1].

وعلي بن إبراهيم هو صاحب التفسير، وأما والده إبراهيم بن هاشم، فمع كل ما قيل فيه، لم يصرح أحد بتوثيقه، حتى قال الحلي في ذلك: لم أقف لأحد من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا تعديل بالتنصيص، والروايات عنه كثيرة، والأرجح قبول روايته[2].

وقد استمات الخوئي وغيره[3]في إثبات توثيقه ضاربين بعرض الحائط كل الامور التــي تثبت بها الوثاقة أو الحسن، كنص أحد المعصومين، أو نص أحد الأعلام المتقدمين، أو نص أحد الأعلام المتأخرين، أو دعوى الإجماع من قبل الأقدمين، وغيرها من الأصول التي وضعوها في ذلك، وجاءوا بأمور لا تخلو من إشكال، منها قول القمي نفسه بصحة كل ما ورد في تفسيره، ومنها وقوعه في إسناد كامل الزيارات.

ولا شك في أن الخوئي وغيره معذورون في ذلك؛ لأن رواياته تبلغ ستة آلاف ومائتين وأربعة عشر مورداً، فعز عليهم إسقاط كل ذلك، ولكن الذي ينبغي ألا نعذر فيه الخوئي ولا غيره على اجتهادهم في إثبات صحة هذا التفسير، هو تلك المصائب التي ملأ بها القمي تفسيره، كالقول بتحريف القرآن، والطعن في الصحابة، وقذف أمهات المؤمنين بالفاحشة، وغير ذلك،ولهذا طعن بعض المحققين [4] من القوم في نسبة التفسير إلى القمي، أو القول بأن التفسير ليس للقمي وحده، وإنما هو ملفق مما أملاه القمي علي تلميذه أبي الفضل العباس الذي ليس له ذكر في الاصول الرجالية ولا يعرف من هو، وما رواه التلميذ بسنده الخاص عن أبي الجارود عن الإمام الباقر، ويتبين ذلك بجلاء في موارد عدة من التفسير من التعابير التالية: رجع إلى تفسير علي بن إبراهيم. أو: رجع إلى رواية علي بن إبراهيم. أو رجع الحديث إلى على بن إبراهيم ومعه يحصل علم إجمالي بكونه خليطاً من تفسيره وتفسير غيره، وحيث لا يمكن التمييز فيسقط جميعه عن الاعتبار كما رأى البعض[5].

ومن الذين فصلوا القول في هذا: الشيخ جعفر السبحاني، حيث خلص إلى القول بأنه: كيف يمكن الاعتماد على ما ذكر في ديباجة الكتاب [6] لو ثبت كون الديباجة لعلي بن إبراهيم نفسه؟! وقال: ثم إن الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداً، خصوصاً مع ما فيه من الشذوذ في المتون[7].

هذا ما كان من أمر القمي وأبيه، وهشام بن سالم رغم توثيقه لم يسلم من رواية في ذمه على لسان الرضا؛ لأنه قال: إن لله عز وجل صورة، وإن آدم خلق على مثل الرب فنصف هذا ونصف هذا، ردها الخوئي[8].

الرواية الثانية:

الكليني: ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «يا أبا عمر! إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء» [9].

وقد مر الكلام في هشام بن سالم، والأعجمي مجهول الحال[10].

الرواية الثالثة:

الكليني: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد جميعاً، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن حسين بن أبي العلاء، عن حبيب بن بشر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «سمعت أبي يقول: لا - والله - ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب! من لم تكن له تقية وضعه الله» [11].

قال الخوئي: روى الكليني عن الحسين بن محمد عن الخيراني عن أبيه رواية تدل على ذم أحمد بن محمد بن عيسى، وأنه كان شديد التعصب في العروبة، ولكن ردها بجهالة الخيراني وأبيه[12].

 ومحمد بن خالد البرقي مختلف فيه [13]، وكذا حال ابن أبي العلاء [14]، وحبيب بن بشر مجهول الحال[15].

الرواية الرابعة:

الكليني: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت:34]، قال: «الحسنة: التقية، والسيئة: الإذاعة، وقوله عز وجل: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، قال: التي هي أحسن التقية» [16].

مر الكلام في القمي صاحب التفسير وأبيه، وحماد هو ابن عيسى الجهني، وثقه القوم، إلا أنه ورد فية ذم لمخالفته أمر الإمام الجواد، ولكن الخوئي رد رواية ذمه هذه، ولا بد؛ فالرجل وقع في إسناد أكثر من ألف وست وثلاثين رواية[17].

وحريز بن عبد الله السجستاني ذكره ابن داود في القسم الثاني من رجاله الذي جعله للمجروحين والمجهولين، حيث لم تثبت وثاقته عنده، وذكره بلفظ: قيل: ثقه[18]، وردت فيه رواية صححها الخوئي تدل على جفاء الصادق له وحجبه عنه[19]، ثم إن السند فيه مبهم وهو عمن أخبره عن الصادق رحمه الله.

الرواية الخامسة:

الكليني: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء. قلت: وما الخبء؟ قال: التقية» [20].

مر بعض رجال السند، والكندي مجهول الحال[21].

الرواية السادسة:

الصدوق: أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن هشام بن سالم، قال: سمعت الصادق عليه السلام قال: «ما عبد الله بشيء أحب إلي من الخبء. قلت: وما الخبء؟ قال: التقية» [22].

الصدوق نفسه لم يسلم من الطعن فيه، والخلاف في توثيقه، حتى توقف فيه البعض بحجة أنه لم يصرح بتوثيقه أحد من علماء الرجال[23].

علي بن إبراهيم مر ذكره، ومحمد بن عيسى اليقطيني ضعفه البعض، وقيل: إنه يذهب مذهب الغلاة، ومن وثقه رد رواياته عن يونس كروايتنا هذه [24]، ويونس هذا وردت فيه روايات متعارضه[25].

الرواية السابعة:

الكليني: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عمرو الكناني قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «أبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية» [26].

مر ذكر بعض رجال السند، والكناني مجهول الحال[27].

الرواية الثامنة:

الكليني: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: «التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له» [28].

وقد مر ذكر بعض رجال السند.

الرواية التاسعة:

الكليني: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن يحيى عن حريز عن معلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:«يا معلى! أكتم أمرنا ولا تذعه؛ فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة يقوده إلى الجنة، يا معلى! من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلى النار. يا معلى! إن التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له» [29].

مر ذكر معظم رجال السند، وعبد الله بن يحيى لم يمكن تمييزه [30]، وابن خنيس اختلفت الأقوال فيه، حيث ذهب إلى ضعفه النجاشي والغضائري وغيرهما، وتوقف فيه الحلي[31].

الرواية العاشرة:

أبان بن عياش عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له في حديث طويل جداً: «والتقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له» [32].

أبان بن أبي عياش، تابعي ضعيف كما قال الطوسي، وقال فيه ابن الغضائري: ضعيف لا يلتفت اليه، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه[33].

وسليم نفسه اضطربت أقوال القوم فيه وفي كتابه الذي حوى مسائل تخالف التاريخ وما عليه القوم، مثل جعله الأئمة ثلاثة عشر، وقصة وعظ محمد بن أبي بكر أباه عند موته مع أن عمر محمد وقتئذ كان أقل من ثلاث سنين، حتى نسب البعض وضع الكتاب إلى أبان بن أبي عياش كما مر بك، أو القول بأنه لا يعرف ولا ذكر في خبر، أو أن كتابه هذا موضوع لا مرية فيه، وأن تاريخ وضعه ربما يكون في أواخر الدولة الأموية، إلى آخر ما قيل فيه[34].

 

[1] الكافي، للكليني (2/217) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/204).

[2] رجال الحلي (4) معجم الخوئي (1/317).

[3] معجم الخوئي (1/316) مقدمة التفسير (6).

[4] بحار الأنوار للمجلسي (22/240)، الحاشية كليات في علم الرجال (320).

[5] دروس تمهيدية في القواعد الرجالية (34).

[6] يشير إلى قول القمي في المقدمة من روايته للتفسير عن الثقات

[7] كليات في علم الرجال (309) وما بعدها.

[8] معجم الخوئي (19/301).

[9] الكافي للكليني (2/217) المحاسن للبرقي (259) بحار الأنوار للمجلسي (75/423، 79/172، 80/267)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/204، 215).

[10] معجم الخوئي (21/257).

[11] الكافي للكليني (2/217) المحاسن للبرقي (256) بحار الأنوار للمجلسي (75/398، 426) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/205).

[12] الكافي للكليني (1/324) معجم الخوئي (2/299).

[13] معجم الخوئي (16/64) النجاشي (2/220)، تنقيح المقال للمامقاني (3/112)، مجمع الرجال (5/205) جامع الرواة (2/110).

[14] معجم الخوئي (5/182) رجال أبي داود (79).

[15] معجم الخوئي (4/220).

[16] الكافي للكليني (2/218) بحار الأنوار للمجلسي (75/428) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/206).

[17] معجم الخوئي (6/224).

[18] رجال بن داود الحلي (237).

[19] رجال الكشي، ترجمة (166)، رجال النجاشي (1/341)، معجم الخوئي (4/242، 249).

[20] الكافي للكليني (2/219) بحار الأنوار للمجلسي (75/431) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/207، 219).

[21] معجم الخوئي (19/311).

[22] معاني الأخبار (162) بحار الأنوار للمجلسي (75/396).

[23] انظر في تفصيل ذلك: معجم الخوئي (16/323)، روضات الجنات (6/136)، لؤلؤة البحرين (374) الخصال، مقدمة المحقق، صفحة (ب).

[24] انظر في تفصل ذلك: معجم الخوئي (17/110، 20/199).

[25] انظر: معجم الخوئي (20/198).

[26] الكافي للكليني (2/218) بحار الأنوار للمجلسي (75/428) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/206).

[27] معجم الخوئي (21/263).

[28] الكافي للكليني (2/219) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/204).

[29] الكافي للكليني (2/223) بحار الأنوار للمجلسي (75/76، 422) مشكاة الأنوار (40) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/210).

[30] معجم الخوئي (10/375).

[31] النجاشي (2/363) مجمع الرجال (6/110) رجال الحلي (259) .

[32] سليم بن قيس (160) بحار الأنوار للمجلسي (33/153).

[33] معجم الخوئي (1/141)، جامع الرواة (1/9)، رجال داود الحلي (225).

[34] انظر تفاصيل ذلك في: معجم الخوئي (8/216)، رجال العلامة الحلي (82) رحال ابن داود (249)، تعليق الشعراني على شرح المازندراني للكافي (2/373)، الموضوعات في الآثار والأخبار (184)، دراسات في الحديث والمحدثين (197)، خاتمة وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (210)، جامع الرواة (1/374)، مجمع الرجال (2/155، 3/157)، رجال النجاشي (1/68 (الحاشية)، تنقيح المقال للمامقاني (2/52).