تُعدّ عقيدة التقية من أخطر العقائد التي تفردت بها الفرقة الإمامية الاثنا عشرية، إذ جعلوها ركناً من أركان الدين وأساساً في التعامل مع الناس، حتى رووا عن أئمتهم قولهم: «لا دين لمن لا تقية له» و«التقية من ديني ودين آبائي».
وفي هذا البحث نتناول بالتفصيل ما أورده كبار مصنفيهم من روايات في هذا الباب، كـالكليني في «الكافي»، والصدوق في «الخصال» و«عيون الأخبار»، والمجلسي في «بحار الأنوار»، مع تحليل أسانيدها وفق منهج الجرح والتعديل المعتمد عندهم، للكشف عن مدى صحة هذه النصوص التي جعلوها أصلاً من أصول المذهب.
وسيتبين من خلال هذا العرض أن جميع هذه الروايات – على كثرتها – لا تخلو من ضعفٍ أو جهالةٍ أو تهمة غلو، وأنها لا يمكن أن تنهض دليلاً على أصل عقدي بهذا الحجم، بل إن بعضها يشتمل على رواةٍ مطعونٍ في دينهم أو متهمين بالكذب والوقف والغلو، مما يسقط الاحتجاج بها جملةً وتفصيلاً.
كما يظهر من أقوال علمائهم أنفسهم – كالخوئي والسبحاني والمجلسي – اضطرابهم في تقويم أسانيدها وتناقضهم بين التوثيق والتضعيف، مما يثبت أن "التقية" عندهم ليست عقيدةً شرعية نُقلت بسندٍ صحيح، بل فكرة موروثة تمّ تعميمها لحماية المذهب وتبرير تناقضاته، حتى صارت شعاراً للتلون وإخفاء العقيدة الحقيقية عن المخالفين.
استكمالا للمقال السابق سنورد جميع ما وقفنا عليه من روايات في باب التقية من طرق الشيعة، ثم ننظر في أسانيدها لنرى هل يصح منها شيء باعتبارات الصحة التي مرت بك آنفاً، ناهيك عن وجوب التواتر الذي يراه الشيعة في مرويات عقائدهم.
|
الرواية الحادية عشرة: |
البرقي: عن عبد الله بن يحيى، عن حريز بن عبد الله السجستاني، عن معلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: « يا معلى! إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له» [1].
مر الكلام في رجال سند هذه الرواية.
|
.الرواية الثانية عشرة: |
الكليني: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن عثمان بن عيسي، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: « التقية من دين الله، قلت: من دين الله؟! قال: إي - والله - من دين الله» [2].
مر الكلام في بعض رجال السند، وعثمان بن عيسى قال فيه الخوئي: لا ينبغي الشك في أنه كان منحرفاً عن الحق ومعارضاً للرضا عليه السلام وغير معترف بإمامته، وقد استحل اموال الإمام عليه السلام، وأما توبته ورده الأموال بعد ذلك فلم تثبت فإنها رواية نصر بن الصباح، وهو ليس بشئ، ولكنه مع ذلك كان ثقة [3].
وسماعة بن مهران - مع توثيق النجاشي له - ضعفه أضرابه، وذكروه تحت قسم من لا يعتمد على رواياتهم[4]، وفي أبي بصير وردت روايات متعارضة بين مادحة فيه وأخرى ذامة[5].
|
.الرواية الثالثة عشرة: |
الصدوق: حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي رضي الله عنه، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه قال: حدثنا محمد بن أبي نصر قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: « التقية دين الله... » فذكر الرواية السابقة[6].
المظفر مجهول الحال وإن كان من مشايخ الصدوق [7]، والعياشي - وإن كان ثقة في نفسه - يروي عن الضعفاء كثيراً[8]، وابن أبي نصر مجهول الحال [9]، وبقية السند مر الكلام في رجاله.
|
الرواية الرابعة عشرة: |
الصدوق: حدثنا المظفر بن جعفر العلوي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه قال: حدثنا إبراهيم بن علي قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: « لا خير فيمن لا تقية له» [10].
مر ذكر بعض رجال السند في الرواية السابقة، وإبراهيم بن علي لم أقف له على ترجمة، وكذلك حال إبراهيم بن إسحاق، فإن كان الأحمري النهاوندي فهو ضعيف ومتهم في حديثه ودينه[11]، وعلي بن أبي حمزة البطائني كذاب متهم[12].
|
.الرواية الخامسة عشرة: |
الكليني: أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر عن جابر المكفوف، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « اتقوا على دينكم فأحجبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له» [13].
العباس بن عامر القصباني مجهول [14]، والمكفوف لم يرد فيه ما يدل على وثاقته باعتبار معايير القوم[15].
|
.الرواية السادسة عشرة: |
الكليني: علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « كان أبي عليه السلام يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية؟! إن التقية جنة المؤمن» [16].
مر الكلام في بعض رجال السند، وابن مروان لم يمكن تمييزه.
|
.الرواية السابعة عشرة: |
الكليني: علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن إسماعيل الجعفي ومعمر بن يحيى بن سام ومحمد بن مسلم وزرارة قالوا: سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول: « التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له» [17].
مر الكلام في بعض رجال السند، ورجال بقية السند اضطربت الأقوال فيهم، فقد ورد أكثرهم في رواية ذمهم فيها الصادق، حيث قال: هلك المترئسون - وفي نسخه: المستريبون - في أديانهم، منهم: زرارة وبريد ومحمد بن مسلم وإسماعيل الجعفي[18].
|
.الرواية الثامنة عشرة: |
الكليني: على بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « التقية ترس الله بينه وبين خلقه» [19].
مر الكلام في جل رجال السند.
|
.الرواية التاسعة عشرة: |
الصدوق: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد قال: قال علي بن موسي الرضا عليه السلام: « لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله عز وجل أعملكم بالتقية، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا» [20].
القمي ووالده مر الكلام فيهما، وابن معبد مجهول [21]، والحسين بن خالد الصيرفي لم تثبت وثاقته[22].
|
.الرواية العشرون: |
المجلسي: وجدت في بعض الكتب مروياً عن أحمد بن محمد الكوفي عن حنان بن سدير عن أبيه سدير الصيرفي عن أبي إسحاق الليثي عن الباقر عليه السلام أنه قال: « إن التقية من ديننا ودين آبائنا، ومن لا تقية له فلا دين له، ولو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً» [23].
الكوفي لم يمكن تمييزه، وحنان بن سدير مهما يكن فهو واقفي[24]، وأبوه وردت في ذمه روايات [25]، ولم أقف على ترجمة لأبي إسحاق الليثي.
[1] المحاسن للبرقي (255) بحار الأنوار للمجلسي (2/73).
[2] الكافي للكليني (2/217) بحار الأنوار للمجلسي (12/55، 75/407، 425) المحاسن للبرقي (258)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/209، 215).
[3] انظر تفصيل ذلك في: معجم الخوئي (11/117).
[4] معجم الخوئي (8/297).
[5] انظر تفصيل ذلك في: معجم الخوئي (14/140).
[6] بحار الأنوار للمجلسي (12/278) علل الشرايع (51).
[7] معجم الخوئي (18/178)، انظر قول الخوئي في مشايخ الصدوق، معجم الخوئي (2/86، 4/120).
[8] معجم الخوئي (17/224)، رجال النجاشي (2/247).
[9] معجم الخوئي (14/298).
[10] علل الشرائع للصدوق (51) بحار الأنوار للمجلسي (12/278، 71/14، 75/407).
[11] معجم الخوئي (1/204)، رجال النجاشي (1/94)، رجال العلامة الحلي (198).
[12] معجم الخوئي (11/214)، رجال الحلي (96) ، خلاصة الأقول، للحلي،( 363)
[13] الكافي للكليني (2/218)، بحار الأنوار للمجلسي (24/112، 75/426).
[14] معجم الخوئي (9/231).
[15] معجم الخوئي (4/27).
[16] الكافي للكليني (2/220)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/204، 211).
[17] الكافي للكليني (2/220).
[18] معجم الخوئي (3/117، 17/255).
[19] الكافي للكليني (2/220).
[20] كمال الدين للصدوق (346) بحار الأنوار للمجلسي (52/321) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/210، 211).
[21] معجم الخوئي (12/181).
[22] معجم الخوئي (5/228).
[23] بحار الأنوار للمجلسي (67/102).
[24] معجم الخوئي (8/34) روضة الكافي للكليني (272) مجمع الرجال (3/97) جامع الرواة (1/350).
[25] معجم الخوئي (13/62).