تُعدّ عقيدة التقية من أبرز العقائد التي تميّزت بها الفرقة الشيعية الإمامية عن سائر الطوائف، بل جعلوها – كما تزعم رواياتهم – جزءًا أصيلاً من الدين لا يتمّ الإيمان إلا بها. وقد بالغ أئمتهم في الحثّ عليها حتى قال بعضهم: «لا دين لمن لا تقية له». ولأهمية هذه العقيدة في بنية الفكر الشيعي، ولارتباطها الوثيق بمنهجهم في الكتمان والتأويل، رأينا أن نعرض جملةً من الروايات الواردة في باب التقية من طرقهم هم أنفسهم، مع النظر في أسانيدها وتوثيق رجالها وفقًا لمعايير الجرح والتعديل التي يعتمدها علماؤهم، لنبيّن مدى صحة هذه المرويات ومدى ثبوتها عن أئمتهم.
وسيتّضح من خلال هذا العرض والتحقيق أن أغلب هذه الروايات لا تصحّ سندًا، وأن منها ما هو معلول بالإرسال أو الجهالة أو الضعف الشديد، الأمر الذي يُسقط دعوى التواتر التي يزعمونها في أصول العقائد، وخاصة ما يتعلق بالتقية التي جعلوها من تسعة أعشار الدين كما يروون.
استكمالا لهذه السلسلة سنورد جميع ما وقفنا عليه من روايات في باب التقية من طرق الشيعة، ثم ننظر في أسانيدها لنرى هل يصح منها شيء باعتبارات الصحة التي مرت بك آنفاً، ناهيك عن وجوب التواتر الذي يراه الشيعة في مرويات عقائدهم.
|
الرواية الحادية والعشرون: |
داود الصرمي قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: « يا داود! لو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً» [1].
الصرمي مجهول[2]، والسند غير مكتمل.
|
الرواية الثانية والعشرون: |
الصدوق: عن ابن مسرور عن ابن عامر عن عمه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام أنه قال: « لا دين لمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا ورع له» [3].
ابن مسرور هو جعفر بن محمد بن مسرور، وليس هو بن قولويه كما توهم البعض، والرجل لم تثبت وثاقته، وقد ضعف الإمام الخوئي الطريق[4].
|
الرواية الثالثة والعشرون: |
حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور (ره) قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عامر عن عمه عبد الله بن عامر عن محمد بن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: « لا دين لمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا ورع له».
هذا السند كسابقه.
|
الرواية الرابعة والعشرون: |
الحميري: حدثنا أحمد بن إسحاق بن سعد قال: حدثنا بكر بن محمد الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « إن التقية ترس المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له» [5].
الأزدي مختلف فيه بين ثقة وآخر لم تثبت وثاقته، والكثير على أنه واحد[6]، وفي نسبة كتاب (قرب الإسناد) إلى عبد الله بن جعفر الحميري كلام.
|
الرواية الخامسة والعشرون: |
الصدوق: حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا أحمد بن إدريس عن محمد بن أبي الصهبان عن محمد بن أبي عمير عن جميل بن صالح عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « يا محمد! كان أبي عليه السلام يقول: يا بني! ما خلق الله شيئاً أقر لعين أبيك من التقية» [7].
مر الكلام في بعض رجال السند.
|
الرواية السادسة والعشرون: |
الصدوق: حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا أحمد بن إدريس قال: حدثني أبو سعيد الآدمي قال: حدثنا الحسن بن الحسين اللؤلؤي عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن جندب عن أبي عمر العجمي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: « يا أبا عمر! إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء» [8].
أبو سعيد الآدمي هو سهل بن زياد، قال فيه النجاشي: ضعيف شهد عليه بالكذب والغلو، وطرد من قم، وقال فيه الطوسي: ضعيف جداً، ونقل الكشي قول ابن شاذان فيه: هو الأحمق، وقال فيه الغضائري: ضعيف جداً فاسد الرواية والمذهب، أخرج من قم وأظهر البراءة منه، ونهي الناس عن السماع منه والرواية عنه، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل. وقال فيه الخوئي: ضعيف جزماً ولم تثبت وثاقته[9]، وسهل هذا روى أكثر من ألفين وثلاثمائة رواية مبثوثة في كتب القوم، والعجمي مر ذكر جهالته.
|
الرواية السابعة والعشرون: |
الطوسي: أبو محمد الفحام قال: حدثني المنصوري قال: حدثني عم أبي موسي بن عيسى بن أحمد قال: حدثني الإمام علي بن محمد قال: حدثني أبي عن أبيه علي بن موسي قال: حدثني أبي موسى بن جعفر قال: قال الصادق عليه السلام: « عليكم بالتقية؛ فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه؛ لتكون سجيته مع من يحذره» [10].
المنصوري إن كان محمد بن أحمد العلوي الهاشمي فقد قال فيه الخوئي: لم تثبت وثاقته [11]. وموسى بن عيسى بن أحمد لم أجد ترجمته.
|
الرواية الثامنة والعشرون: |
الصدوق: حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا الحسن بن علي السكري، قال: حدثنا محمد بن زكريا الجوهري، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن سفيان بن سعيد، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام يقول: « يا سفيان! عليك بالتقية؛ فإنها سنة إبراهيم الخليل عليه السلام، يا سفيان! من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة العليا من العز» [12].
القطان قال فيه الخوئي: هو من مشايخ الصدوق، وتوهم بعضهم حسن الرجل من ترحم الصدوق عليه، وهو عجيب، كيف وقد ترحم الأئمة لعموم الزائرين لقبر الحسين، بل أفرط بعضهم فذكر أن الصدوق وصفه بـ(العدل)، وهذا أعجب؛ فإن الصدوق لم يصفه بالعدل، إنما ذكر أنه كان معروفاً بأبي علي بن عبد ربه (عبدويه) العدل، ومعنى هذا أن العدل كان لقباً له، وكلمة العدل، وكلمة الحافظ، والمقريء ونحوهما من الألقاب، وأين هذا من وصفه بالعدالة، ولا بعد في أن يكون الرجل من العامة، كما استظهر بعضهم [13]، وبقية السند بين مجهول أو غير مترجم له، وابن سعيد غير ممدوح عند القوم[14].
|
الرواية التاسعة والعشرون: |
البرقي: أبي عن ابن أبي عمير عن يونس بن عمار عن سليمان بن خالد قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: « يا سليمان! إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله» [15].
البرقي وأبوه مر الكلام فيهما، ويونس مجهول [16]، وسليمان مختلف فيه[17].
|
الرواية الثلاثون: |
البرقي: أبي عن حماد بن عيسى عن سماعة بن مهران عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « لاخير فيمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا تقية له» [18].
مر الكلام في البرقي وأبيه وسماعة وأبي بصير.
[1] السرائر (478) بحار الأنوار للمجلسي (75/414) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/211).
[2] معجم الخوئي (7/128، 137).
[3] صفات الشيعة (179)، بحار الأنوار للمجلسي (67/303).
[4] معجم رجال الحديث، للخوئي (5/90، 8/21، 11/309، 12/100)، المفيد من معجم رجال الحديث، لمحمد الجواهري (113)، كتاب الصلاة، للخوئي (4/235)، جامع الرواة، للأردبيلي (2/53).
[5] قرب الإسناد (17) بحار الأنوار للمجلسي (75/394).
[6] خلاصة الأقوال، للحلي (33، 80)، التحرير الطاوسي (41)، رجال الخاقاني (185)، معجم الخوئي (4/259).
[7] الخصال (22)، بحار الأنوار للمجلسي (75/394، 398) المحاسن للبرقي (259) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/209).
[8] الخصال (22)، بحار الأنوار للمجلسي (75/394، 399، 423) المحاسن للبرقي (259).
[9] معجم الخوئي (8/340)، رجال النجاشي (1/417، 2/243)، فهرست الطوسي (110) الاستبصار للطوسي (3/261)، مجمع الرجال (3/179)، رجال ابن داود (249، 294)، رجال العلامة الحلي (228).
[10] أمالي الطوسي (299)، بحار الأنوار للمجلسي (75/395)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/212).
[11] معجم الخوئي (15/55).
[12] معاني الأخبار (386)، بحار الأنوار للمجلسي (75/396)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/208).
[13] معجم الخوئي (2/86).
[14] معجم الخوئي (8/151)، رجال العلامة (228)، رجال بن داود (248).
[15] المحاسن للبرقي (257)، بحار الأنوار للمجلسي (75/397)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/212)
[16] معجم الخوئي (20/225).
[17] انظر تفصيل ذلك في معجم الخوئي (8/245).
[18] المحاسن للبرقي (257)، بحار الأنوار للمجلسي (75/397) وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (16/212، 235).