إنَّ القرآن الكريم هو حبل الله المتين، ونوره المبين، الذي تكفَّل الله بحفظه وصيانته من كلِّ عبث أو تحريف، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9). ومع ذلك، لم تنقطع محاولات الطاعنين والمشكِّكين في سلامة هذا الكتاب العزيز، وكان من أبرز هذه الشبهات ما أثارته الفرق الضالة، وعلى رأسها الرافضة (الشيعة الاثنا عشرية)، التي زعمت أنَّ القرآن لم يُجمع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، قد قاموا بتحريفه وإسقاط كثير من آياته وسوره.

يأتي هذا المقال ليُفنِّد هذه المزاعم الباطلة، ويُؤكِّد حقيقة صيانة القرآن وسلامته، مُبيِّنًا المنهج الدقيق والصارم الذي اعتمده الصحابة الكرام في جمعه وتدوينه، وهو المنهج الذي يُمثِّل إجماع أهل السنة والجماعة، ويُثبت أنَّ ما بين دفَّتي المصحف هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنَّ هذه الشبهة، التي تهدف إلى الطعن في عدالة الصحابة ونقلهم، هي في حقيقتها طعن في الوعد الإلهي

لم يُجمع القرآن في مصحف واحد على عهد النبوة؛ لأنَّ الوحي كان لا يزال يتنزَّل، وكان النسخ واردًا على بعض الآيات، ولو جُمع في مصحف واحد لتطلَّب ذلك تغييرًا مستمرًا فيه، مما يُسبِّب مشقة عظيمة. بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، انقطع الوحي، وانتفت موانع الجمع، وتأكَّدت الحاجة إليه بعد استشهاد عدد كبير من حُفَّاظ القرآن في حروب الردة، وخاصة في يوم اليمامة.

هنا، جاء دور الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي أشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن. وقد أوكلت هذه المهمة الجليلة إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، الذي كان من كُتَّاب الوحي وحضر العرضة الأخيرة. وقد اتبع الصحابة منهجًا دقيقًا ومُحكمًا في الجمع الأول، حيث اشترطوا:

1)  أن يكون النص مكتوبًا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

2)  أن يشهد شاهدان على أنَّ هذا المكتوب هو من القرآن.

3)  أن يكون مما ثبت عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة.

هذا الجمع الأول كان في صحف مُرتبة الآيات، لكنها غير مُرتبة السور، وظلَّت هذه الصحف محفوظة عند أبي بكر، ثم عمر، ثم حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.

وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واختلاف المسلمين في الأمصار في وجوه القراءة، خشي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من وقوع الفتنة، فأشار على عثمان بجمع الناس على مصحف واحد. فقام عثمان رضي الله عنه بنسخ القرآن من صحف حفصة، وجمع الناس على مصحف إمام واحد، معتمدًا على لغة قريش عند الاختلاف، وأرسل نسخًا منه إلى الأمصار، وأمر بإحراق ما سواه من المصاحف الخاصة؛ قطعًا لمادة الخلاف. هذا الجمع الثاني كان إجماعًا من الصحابة، وهو الذي وصل إلينا اليوم، وهو دليل قاطع على صيانة القرآن من التحريف والنقص والزيادة.

الشبهة والرد عليها من وجهة نظر أهل السنة والجماعة

مضمون الشبهة

يزعم بعض المشكِّكين أنَّ القرآن الكريم لم يُجمع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم الذين قاموا بجمعه وترتيبه وتوحيده في كتاب واحد، وقد حرَّفوه فأسقطوا كثيرًا من آياته وسوره. ويستدلون على هذا بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم توفِّي ولم يكن هناك قرآن مُدوَّن في أيدي المسلمين. ويرمون من وراء ذلك إلى وصم القرآن بشيء من التحريف أو التصحيف أو التزييف أو النقص أو الزيادة أثناء جمعه؛ بغية الطعن في سلامته والتشكيك في تمامه.

الرد على الشبهة

إنَّ هذا الزعم باطل من أساسه، ويُردُّ عليه من وجوه عدة، تُؤكِّد أنَّ القرآن محفوظ بحفظ الله، وأنَّ الصحابة الكرام كانوا أحرص الناس على سلامته:

أولًا: حفظ القرآن في عهد النبوة كان مُحكمًا بطرق شتى

لقد حفظ الله القرآن لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في حياته بطرق عدة، تُثبت أنَّ القرآن كان مُدوَّنًا ومحفوظًا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

1.الحفظ في الصدور: كان القرآن يُحفظ في صدور الصحابة، وكان كلُّ حرف ينزل يعيه الحفظة في قلوبهم. ومن هنا نستطيع القول: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما توفِّي كان كلُّ محفوظ من القرآن مكتوبًا، كما كان كلُّ مكتوب من القرآن محفوظًا في صدور المؤمنين [1].

2.التدوين في السطور: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كُتَّاب الوحي فور نزول الآية، فيُملي عليهم ما نزل، فيقومون بكتابته على الفور على الرقاع والأكتاف والعُسُب وغيرها [2].

3.المُعارضة مع جبريل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل عليه السلام ما نزل من الوحي مرة كلَّ عام، وعرضه عليه مرتين في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو ما يُعرف بـ "العرضة الأخيرة" [3].

وفي هذا ما يُبيِّن لنا طرفًا من الجهد الذي بذله ذلك الرعيل الأول في إثبات مقتضى حفظ الكتاب الخالد وبتحقيق مقتضى الوعد الإلهي: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).

ثانيًا: لم يُجمع القرآن في مصحف واحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة بالغة

لم يُجمع القرآن في مصحف واحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين رئيسيين [4]:

1.عدم اكتمال الوحي: لم يكن القرآن قد اكتمل نزوله بعد، وكان النسخ واردًا على بعض آياته، فلو دُوِّن في مصحف واحد لأدَّى ذلك إلى مشقة كبيرة في ترتيبه وتغييره كلما نزل شيء من الوحي.

2.وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم: لم يكن المسلمون بحاجة لذاك الجمع والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، فهو المرجع والمعصوم من النسيان، كما قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ﴾ (الأعلى: 6). فلما توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي القرآن في صدور غير المعصومين، وقع الخوف من نسيان الخلق، فكان الجمع.

إنَّ قول زيد بن ثابت رضي الله عنه: "قُبِضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيء" يُحمل على أنَّ القرآن لم يُجمع في صحيفة واحدة في كتاب واحد على غرار ما هو حادث اليوم، وليس المراد عدم تدوينه وحفظه أصلًا [5].

ثالثًا: ضوابط الصحابة الصارمة في جمع القرآن تُبطل دعوى التحريف

لقد كان الصحابة الكرام من أشدِّ الناس حرصًا على سلامة القرآن، والتحوُّط في جمعه، ولهذا لم يقبلوا غير المتواتر، وردُّوا غير قطعي الثبوت. وقد وضعوا ضوابط صارمة في الجمع الأول على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وفي الجمع الثاني على عهد عثمان رضي الله عنه، وهي ضوابط تُبطل أيَّ دعوى للتحريف أو النقص [6]:

الضابط في الجمع

الجمع الأول (أبو بكر)

الجمع الثاني (عثمان)

الأساس

الاعتماد على ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما حُفظ في الصدور.

الاعتماد على صحف أبي بكر التي كانت مستندة إلى الأصل المكتوب والمُقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم [7].

التوثيق

اشتراط شاهدين على أنَّ النص كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّه مما عُرض في العرضة الأخيرة [8].

أن تكون الآية محفوظة حفظًا مطابقًا لما في مصحف أبي بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل [9].

لغة الكتابة

لم يكن هناك اختلاف في اللغة.

الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش، لأنَّ القرآن نزل بلسانهم، وذلك لتوحيد الرسم [10].

النتيجة

جمع القرآن في صحف مُرتبة الآيات، غير مُرتبة السور.

جمع الناس على مصحف إمام واحد مُرتب الآيات والسور، وإرسال نسخ منه إلى الأمصار [11].

إنَّ هذه الدقة المتناهية، والمنهج العلمي الصارم الذي اتَّبعه الصحابة، يُؤكِّد أنَّ القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتغيَّر فيه حرف واحد، وهو ما شهد به كثير من المنصفين من غير المسلمين [12].

المصادر والمراجع

[1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4718).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ (3599)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار (6494)، وفي موضع آخر.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3426).

[4] مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ج1، ص208،207 بتصرف.

[5] فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، طـ1، 1407هـ/ 1987م، ج8، ص635.

[6] البرهان على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، د. أحمد بن منصور آل سبالك. مركز البحث العلمي للدراسات وإحياء التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م.

[7] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة براءة ” التوبة ” (4402)، وفي مواضع أخرى.

[8] أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، كتاب جمع أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ القرآن في المصاحف، اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء (18)، وعلاء الدين البرهان فوري في كنز العمال، حرف الهمزة، كتاب الأذكار من قسم الأفعال من حرف الهمزة، باب في لواحق التفسير، جمع القرآن (4754).

[9] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، المكتبة العصرية، بيروت، ج1، ص 238، 239.

[10] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش (3315)، وفي موضع آخر.

[11] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4702).

[12] مدخل إلى القرآن الكريم، محمد عبد الله دراز، دار القلم للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص42.

المراجع الأخرى المذكورة في النص الأصلي:

رد القرآن والكتاب المقدس على أكاذيب القمص زكريا بطرس، إيهاب حسن عبده، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م.

حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.

الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، دار هجر للطباعة والنشر، القاهرة، 1408هـ/ 1988م.

الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم، د. محمد السيد جمال الدين، دائرة المعارف الإسلامية والبريطانية.

دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة،1411هـ/ 1991م.

المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، السنة التاسعة، العدد104، 1410هـ/ 1990م.

بحوث منهجية في علوم القرآن الكريم، موسى إبراهيم الإبراهيمي، دار عمار، عمان، ط2، 1996م.

مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/2004م.

أكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنة، رسول جعفريان، تقديم: د. محمد عمارة، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م.

عصمة القرآن من الزيادة والنقصان، السيد مرتضى الرضوى، مؤسسة دار الهجرة، طهران، ط1، 1422هـ.

المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م.

مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م.

الاستشراق والقرآن العظيم، د. محمد خليفة، دار الاعتصام، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1994م.

مدخل إلى القرآن الكريم، د. محمد عبد الله دراز. ترجمة: محمد عبد العظيم علي، مراجعة: د. السيد محمد بدوي، دار القلم، الكويت، ط1، 1424هـ/ 2003م.

البرهان على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، د. أحمد بن منصور آل سبالك. مركز البحث العلمي للدراسات وإحياء التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م.

الإسلام بين الحقيقة والادعاء، مجموعة علماء، الشركة المتحدة للطباعة والنشر، مصر.

لماذا لم يجمع القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم، موقع طريق الحقيقة.

جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث، د. محمد شرعي أبو زيد، رسالة ماجستير، جامعة الكويت.