الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من المعلوم أنّ المسلمين – ممّن يُعرفون بـأهل السنة والجماعة – يُحفظون حقّ الصحابة والتابعين وصحابة الصحابة، كما يحفظون أن يكون الحكم مبنياً على الكتاب والسنة وما ورد في عدلٍ ومعرفةٍ. وقد وقع في تأريخ المسلمين – لا سيّما في عهود الفتوح والدول الإسلاميّة الأولى – بعضُ الشبهات التي تُلقَى على هذه الحقبة من تاريخ الخلافة الإسلامية، ومن أبرزها ما يُطرح بشأن أسرَة بني أمية: بأنّهم أسلموا متأخّرين أو أنّ مصوغ الخلافة عندهم كان “ملكيّة وراثيّة” خالصة، وأنّهم بذلك ورثوا الإسلام والخلافة بطريقة جائرة.
ولقد رأينا أن نتحفّّظ في هذا المقال على لغة تقيسرية أو التهوين التامّ، فالحقيقة أنّ الحكم على هذه الفترة ينبغي أن يكون مبنياً على دراسة من جميع جوانبها من منظور أهل السنة والجماعة، مع مراعاة البعد التاريخي والمعرفي، مع الاعتراف بأنّ لكلّ عصر إنجازاته ومعايبه، وأنّ الصحابة والتابعون مَن خاضُوا تلك المعارك ودفعوا أثماناً لنشر الإسلام والدين.
وموفّق من الله من أطاعه، وهو المستعان عليه، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
بيان الموضوع والشبهة وردّها
الشبهة:
يطعن بعض المغرضين أو المسيّسين في حُكم أسرَة بني أمية (خُلفاء الدولة الأموية) جملةً واحدة، بأنّهم “إنما أسلموا عند غلبة المسلمين ليجعلوا الخلافة كرة يتداولونها بينهم ولا تخرج عن عشيرتهم”؛ ويستدلّون على ذلك بأنّ بني أمية كانوا الأخيرين إسلاماً، ومن ثمّ كانوا الأسبقين إلى جعل الخلافة “ملكا عضوضاً جائراً” ثم جعلها وراثة تُمرَّ إلى أعقابهم. ومن هذا المنطلق يُراد لهذه الحقبة أن تُوصَم بأنّها حقبة من الانحراف الإسلامي، مع إبطال جهودها في نشر الدين وتوسيع الدولة الإسلامية.
الردّ – من وجهة نظر أهل السنة والجماعة:
من المهمّ أن نبيّن أنّ الردّ ليس من باب الدفاع الأعمى، أو القول “كل شيء حسناً في الأمويين”، بل من باب التأصيل العلمي والنظر بموضوعية، وبيان أن الشبهة إنّما هي تبسيط مخلّ وتعميم ظالم لا يليق بتاريخ هذه الأمة، ومن ثمّ أن نقيم أموراً أساسية لبيان ذلك:
1- في موضوع التأريخ وصياغة التاريخ الأموي:
◘ ليس يخفى على الباحث أن كثيراً من المؤرّخين الذين دونوا تاريخ الدولة الأموية كانوا من عهدٍ لاحق، غالباً من خلفاء الدولة العبّاسية، ومرتبطين بمصالح سياسية ودينية جعلت من الانتقاص من الأمويين أمراً سائغاً، أو جعلت من ربطهم بكلّ ما فيه إنقاصٍ أمراً مُباشَراً. مثلاً يقول الدكتور أحمد شلبي: «لقد تحالفت ظروف كثيرة على الحطّ من شأن الأمويين بقصد أو بدون قصد … والمراجع التي بين أيدينا تكاد تخلو تماماً من كلمة مدح أو ثناء على أكثر خلفاء هذه الدولة، أما عبارات القذف والطعن فقد أسهبت فيها كتب كثيرة…»
◘ وعليه، فإنّ تلقّي الروايات القطعيّة والشبهات الجاهزة يجب أن يكون بحذر، ومع وضعنا في الحسبان تحويلات السلطة، والغلبة التي قد تؤثّر في كتابة التاريخ، وتغيير الأطر السياسية.
◘ وعليه، لا يجوز أن يستند الحكم على “تأخّر إسلام بني أمية” من دون دليل موثوق من المصادر الأولى أو أقوال موثوقة من كبار الصحابة أو التابعين.
2- في موضوع “إسلام بني أمية” وتعابيرهم السياسيّة:
◘ لا يُمكن بحال الجزم بأنّ بني أمية “أسلموا جميعاً عند الغلبة” أو أنّهم كانوا “آخر من أسلم” من المسلمين، لأنّ ذلك يتطلّب دليلاً موثوقاً معتبراً، ولم يُرِد في المصادر المعتبرة أن جميع بني أمية تأخّروا في الإسلام إلى أن جلسوا على سدة الحكم.
◘ كما أنّ “الإسلام” أمر عامّ يتضمّن الإيمان بالشهادتين، ولكن ليس كلّ مسلم يُشكل شركة في الأمر السياسي أو يشارك في تأسيس الدولة أو المبايعة، ومن ثمّ يستحيل أن يُقال إنّ كلّ أفراد القبيلة كانوا متساوين في موقفهم السياسي أو الديني.
◘ من جهة آخر، فإنّ عن ولاية العهد مثلاً، أو أن الخلفاء الأمويين جعلوا الخلافة “وراثة خاصة” بعشيرتهم فحسب، أمر فيه نظر، وقد اعتُبر من الممارسات التي وردت فيها مآخذ؛ لكنّ هذا لا يبرّر إنكار إسلامهم أو القول بأنهم قد ابتدعوا الخلافة بدعة خالصة أو أنّهم تجاوزوا الشرع. بل قد اقتصرت المعالجة على أن بعضهم أسهم في تصرفات خاطئة يُحاسبون عليها عند الله، ولا ينبغي أن يُعمّم القول على كامل دولتهم أو تاريخهم.
3- في موضوع إنجازات الدولة الأموية ودورها في نشر الإسلام:
◘ لا يمكن إنكار أن الدولة الأموية حقّقت إنجازات حضاريّة وسياسيّة وفكريّة مهمة. كما تشير موسوعة بريتانيكا في تعريفها لدولة بني أمية: أنّ “الدولة الأموية … هي فترة مهمة في تاريخ الإسلام؛ تم فيها دفع جهاز الدولة الإسلامية إلى حدوده الجغرافية الكبرى، وتوسّعت رقعة الخلافة من الأندلس غرباً إلى حدود الصين شرقاً”.)
◘ ومن هذه الإنجازات: تعريب الدواوين والنقود والعملات والنقوش، وهي إحدى الممارسات التي ساعدت في إعلاء اللغة العربيّة والدين الإسلامي بين الشعوب التي دخلت في الإسلام. يقول الدكتور عبد العزيز الدوري: “وكان لسياسة التعريب التي اتخذها الأمويون أثرها البالغ في نشر العربية … وتعريب الدواوين المالية … وإحلال كتابات عربية محلها… وبالتالي أصبحت العربية لغة الثقافة والإدارة بصورة شاملة”. ()
◘ كما أنّ الدولة الأموية كانت فترة توسيع فعليّ للدولة الإسلامية، وزيادة دخول غير العرب في الإسلام، وإن كان هذا لا يعني أنّ كلّ شيء فيها كان بلا نقص أو أنّ كلّ قراراتها لم تخضع للنقد؛ لكنّ إنجازها قائم لا يُمحى.
4-في فهم تاريخية ولاية العهد وتحوّل بعض مفاصل الخلافة:
◘ من المهم في عرضنا أن نفرّق بين “شرعية الخلافة” و”ممارسة الحكم” و”أخطاء الحكّام”؛ فالأمر في الخلافة الأمويّة ليس بحالة تامّة من البراءة أو من الاتّهام المطلق، بل إنّ علماء أهل السنة ينظرون إلى أنّ الخلفاء من الصحابة والتابعين وما بعدهم – رغم اختلافهم وتباينهم – كانوا يُحسبون من المسلمين العاملين، إلا أنّ الخطأ وارد، كما كان في غيرهم.
◘ وإنّ ظواهر مثل مبايعة الولد خلفاً (كحال معاوية بن أبي سفيان لموالاه لـ يزيد بن معاوية) تُعدّ من مآخذ، لكن لا تُقدّم دليلاً مطلقاً على “إسلام متأخّر” أو “خلافة وراثية خالصة” بمعنى أنها بدعة تاريخية جامِدة. بل إنّ دراسة التاريخ توضح أنّ مثل هذه التغيّرات جاءت في سياق تحولات سياسيّة واجتماعيّة، منها ما يتعلق بزيادة قوة الدولة، وتبدّل أوضاع الجيوش، ونموّ الدعائم المؤسسية، وما صاحبه من غير العرب من إدارات، كما يخبرنا المؤرّخون.
◘ كما يقول ابن خلدون في مقدمته إنّ مبدأ “العصبية” ودور الزعماء المحليّين في تلك الأحقاب ساهم في تغيير طبيعة الحكم: «ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية … اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به… فكان الأمر طبيعيّاً ساقته العصبية بطبيعتها». ()
◘ إذاً، من أهل السنة نلفت النظر إلى أن الحكم ليس بأنّ “كلّ ما في الأمويين صحيح” أو “كلّ ما فيهم خاطئ” بل التفصيل مطلوب، ومعرفة الموقف من الوجهين: الوجه الديني – احترام الصحابة وتبعية الإسلام – والوجه التاريخي – نقد السياسات التي خالفت الشرع أو جرت بغير ما ينبغي.
5- في منهج أهل السنة والجماعة تجاه الصحابة والخلفاء وأهل التقدّم:
◘ من منطلق عقائد أهل السنة، لا يُقاس إيمان الصحابي أو أحد من الخلفاء بأنّه كامل من الخطأ أو المعصوم، بل بأنّه مسلم صالح، وإن أخطأ في مسألة من مسائل الحكم أو غيره فإنّ ذلك لا يبطِل مصالحته بالإسلام أو ينزعه من عداد المسلمين ما لم يكن كفّاراً أو مبتدِعاً في دينه.
◘ كما يقول الإمام أبو المعالي الجويني: «فحقيق على المتدين أن يستصحب لهم ما كانوا عليه في دهر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن نقلت هناة فليتدبّر النقل وطريقه، فإن ضعف رده، وإن ظهر وكان آحاداً لم يقدح فيما علم تواتُراً منه، وشهدت له النصوص، … ثم ينبغي ألا يألو جهداً في حمل كل ما ينقل على وجه الخير»
◘ ومن ثمّ، فمن المنهج السني أن ننظر إلى تلك الحقبة نظرة محققة، لا أن نُسوِّي بين النافع والضار أو ننكر الحاضر منها أو نسبّها كلّها إلى ضلال أو فساد.
بعض نقاط الخلاصة
◘ إنّ النّظر إلى تاريخ بني أمية لا يوجب إنكار إسلامهم أو القول بأنّهم “لم يؤمنوا” بالمعنى الشرعي، لأنّ ذلك لا يستند إلى دليلٍ معتبر.
◘ ومع ذلك، فإنّ هناك مآخذ تاريخية وسياسية على بعض الخلفاء أو بعض ممارسات الدولة الأموية، لكنّ هذا لا يوجب إسقاط كلّ الجهود، أو وصف الحقبة كلها بأنها “ضلالة”.
◘ ينبغي التنبيه إلى أنّ الشبهة التي تقول إنّهم “ورثوا الإسلام” أو أنّهم أولى بمن لا يملك الحقّ، هي شبهة مبسّطة، وتجاهلت واقع الإسلام في المجتمع، وتجاهلت الجهود الكبيرة التي بُذلت في عهدهم، وتجاهلت المنهج السنيّ الذي يحفظ الصحابة والخلفاء – ما لم يكن الحكم الشرعي باستحقاقهم – في دائرة الأجر والعلم والعمل، مع معرفة أن الخطأ وارد.
◘ وكذلك، إنّ منهج أهل السنة يدعو إلى حفظ الصحابة والتابعين، وعدم غلوّ في أحد منهم، وعدم التقليل من أهمية العمل الذي قاموا به.
◘ وخلافتهم ليست بالضرورة معصومة من الخطأ، لكن ذلك لا يعيب الإسلام أو يُنقص من صحة جهودهم – بشرط عدم تجاوز شرعي كبير ثابت بصريح النصوص.
خاتمة
وفي الختام، فإنّ التحقّق والتأمّل في قراءات التاريخ الإسلامي أمر ضروريّ، خصوصاً حين يُثار في أذهان المسلمين رأيٌ يعمّم أو يُبخس تاريخَ مرحلة بكاملها. ومن منهج أهل السنة والجماعة أن يحترم المسلمون من سبقوهم من الصحابة والخلفاء ما يجب الاحترامُ، وأن يفرقوا بين القول بالخطأ الفردي أو السياسي، وبين القول بالردّ الكليّ والتشكيك في الإسلام. وإننا إذا رأينا في العهد الأموي ما يُنتقد من ممارسات أو سياسات، فإنّ ذلك لا يوجب – بحال – القول بأنّ هؤلاء “لم يؤمنوا” أو أنّهم “ورثوا الإسلام” وحده، بل نقول: إنّهم كانوا من المسلمين، اجتهدوا، أخطأوا، حقٌّ عليهم مثوبةٌ، وخطأٌ يُحاسبون عليه، والله تعالى أعلم.
نسأل الله أن يوفّقنا لما يحبه ويرضاه، وأن ينفع بهذا المقال جميع المسلمين، وأن ينزّه لنا الحقّ ويبعد عنا الباطل، إنه سميع قريب مجيب. والحمد لله ربّ العالمين.