يُعدُّ الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخطر الأبواب التي يلج منها أهل الأهواء والبدع، وعلى رأسهم الفرقة الضالة التي تُعرف بالشيعة، للتشكيك في أصول الدين ونقل الشريعة. ومن الشبهات الباطلة التي يروجونها، زعمهم أن كبار الصحابة -رضي الله عنهم- تعمَّدوا إخفاء مرويات آل البيت الكرام، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم-، مدَّعين أن هذا الإخفاء كان بدافع الحقد أو الانتقاص، وأن هذا هو سبب قلة مروياتهم في دواوين أهل السنة مقارنة بما يزعمونه من مرويات ضخمة في كتبهم.
إن هذه الشبهة لا تقوم على أساس علمي أو تاريخي، بل هي محض افتراء يهدف إلى زعزعة الثقة في نقلة الدين، والطعن في أمانة خير جيل عرفته البشرية. ويهدف هذا المقال إلى دحض هذه الشبهة من جذورها، ببيان سعة مفهوم آل البيت، وإظهار حقيقة العلاقة الوثيقة بين الصحابة وآل البيت، وتوضيح الأسباب المنطقية والعلمية لعدد مروياتهم في كتب السنة، مؤكدين أن دواوين أهل السنة حافلة بمروياتهم وفضائلهم، وأن القول بالإخفاء هو قول مردود بالدليل والبرهان.
مضمون الشبهة: يزعم بعض المشككين أن كبار الصحابة أخفوا مرويات آل البيت، وهم: (علي وفاطمة والحسن والحسين) -رضي الله عنهم-، مستدلين على ذلك بأن جملة أحاديثهم لا تتعدى مائة حديث عند أهل السنة، بينما يحفظ لهم أشياعهم أكثر من ثلاثمائة ألف حديث. يرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في أمانة كبار الصحابة وصدقهم في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الزعم أن كبار الصحابة أخفوا مرويات آل البيت
وجوه إبطال الشبهة:
1- إن مفهوم "آل البيت" يشمل زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس مقصورًا على علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم-، فآل بيت الرجل: أصوله وفروعه، فلماذا إطلاق آل البيت على هؤلاء دون غيرهم؟
2- لقد عرف الصحابة لآل البيت قدرهم، فأكرموهم، وعرف آل البيت لكبار الصحابة قدرهم أيضًا، وما كان لكبار الصحابة أن يقدروهم ويحبوهم ثم يخفوا أحاديثهم.
3- إن دواوين السنة قد حفظت لنا روايات كثيرة من مرويات آل البيت؛ ففي مسند أحمد أكثر من ثمانمائة رواية لعلي بن أبي طالب فضلًا عن غيره، كما حفظت مرويات لكبار الصحابة أنفسهم عن آل البيت، فكيف يدعي هؤلاء أن كبار الصحابة أخفوا مروياتهم؟!
التفصيل:
أولًا: مفهوم آل البيت أوسع مما فهمه المدّعون:
من المعلوم بداهة أن آل بيت الرجل يشمل أصوله وفروعه، وبذلك تدخل زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمن آل البيت، وقد ذكر الله تعالى آل البيت في قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33)، فشمل جميع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يخصص عليًا وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- كما فعل المفترون، وسياق الآيات يدل على هذا المعنى، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)﴾ (الأحزاب: 32-34). والذي يراعي سياق الآيات يوقن أنها نزلت في نساء النبي خاصة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ﴿عَنكُمُ﴾ بدلًا من "عنكن"؛ لأن النساء دخل معهن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رأس أهل بيته، كما قال -سبحانه وتعالى- عن زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ (هود: 73) مع أنهما إبراهيم وزوجته، وقال -سبحانه وتعالى- أيضًا عن موسى عليه السلام: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ (القصص: 29)، وكانت معه زوجته، وقول امرأة العزيز لزوجها: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (يوسف: 25) تعني نفسها.
إذًا فمعنى أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعدى عليًا والحسن والحسين وفاطمة إلى غيرهم ليشمل أزواج النبي جميعًا، كما في حديث زيد بن أرقم حينما سأله حصين: «ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم» [1].
وهكذا فإن أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يشمل نساءه بدليل الآية، وآل عباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل علي بن أبي طالب بدليل حديث زيد بن أرقم. فكل هؤلاء هم أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وجميع بني هاشم.
تأكيد شمولية مفهوم آل البيت في القرآن والسنة:
إن إصرار الفرقة الضالة على قصر مفهوم "أهل البيت" على علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- هو تحريف لمعنى قرآني ولغوي ثابت. فالسياق القرآني في سورة الأحزاب واضح كل الوضوح، حيث أن الآيات التي تسبق وتلي آية التطهير هي خطاب مباشر لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم، مما يجعل إخراجهن من هذا المفهوم مخالفًا لأبسط قواعد التفسير اللغوي والسياقي. يقول الله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ...﴾ ثم تأتي آية التطهير، ثم يتبعها قوله: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ...﴾ (الأحزاب: 32-34).
أما حديث الكساء، الذي يستدل به البعض على القصر، فإنه لا ينفي شمولية المفهوم، بل هو بيان لفضل هؤلاء الأربعة، ودعاء خاص لهم بالبركة والتطهير. فليس في قوله: «... هؤلاء أهل بيتي» [2] ما يقتضي القصر، كما أن قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ﴾ (الحجر: 68)، لا يعني أنه ليس له ضيف غيرهم. وقد روى المفسرون عن عكرمة أن قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33) نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم [3].
مرويات آل البيت في دواوين السنة: حقيقة الأرقام:
إذا كان مفهوم آل البيت بهذه السعة، باشتماله على زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم، فإن دواوين السنة قد حوت لنا وجمعت آلاف المرويات عنهم، مما يدفع شبهة القول بقلة مروياتهم. فعائشة -رضي الله عنها- وحدها، وهي من آل البيت بنص القرآن، تُعدُّ من المكثرين في الرواية، حيث بلغت مروياتها أكثر من ألفي حديث. وكذلك عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وهو من بني هاشم، تُعدُّ مروياته بالآلاف. وهذا العدد الهائل من المرويات ينسف الشبهة من أساسها، ويثبت أن أهل السنة حفظوا لآل البيت حقهم في الرواية والتبليغ.
وعلى فرض التسليم بالمفهوم الضيق الذي يتبناه المُشكِّكون، والاقتصار على علي وفاطمة والحسن والحسين فقط، فإن مروياتهم أيضًا غير قليلة. فمرويات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في مسند الإمام أحمد وحده تزيد عن ثمانمائة حديث، وهذا العدد يرتفع كثيرًا عند النظر في باقي دواوين السنة كالصحيحين والسنن والمصنفات. أما القول بأن مروياتهم تبلغ ثلاثمائة ألف حديث، فهو قول لا يستند إلى أي منهج علمي أو إحصاء دقيق، بل هو من قبيل المبالغة التي تهدف إلى تضخيم الأمر وتشويه الحقيقة. إن هذا العدد المزعوم يفوق عدد الأحاديث الصحيحة والحسنة والمقبولة في جميع كتب السنة مجتمعة، مما يؤكد أن هذا الادعاء هو محض افتراء.
ثانيًا: توقير الصحابة لآل البيت وحب آل البيت للصحابة:
إن موقف الصحابة من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الصحابة ما كانوا يُكِنُّون لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا كل حب وتقدير وإجلال، بل كانوا أحب الناس إلى قلوبهم عملًا بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي الحديث الذي رواه زيد بن أرقم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «... أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي...» الحديث [4].
قال القرطبي: "وهذه الوصية، وهذا التأكيد يقتضي وجوب احترام أهله، وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها" [5].
ولقد فهم الصحابة وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهل بيته حق الفهم، فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أفضل الأمة إيمانًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبهم ويُكرِمُهم، ويدعو إلى إكرامهم ومحبتهم، فقد روى البخاري بإسناده إلى أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- في أَهْلِ بَيْتِهِ» [6].
فهذا خطاب من الصديق -رضي الله عنه- ووصيته للناس في حفظ حقوق آل البيت، فالمراقبة للشيء هي المحافظة عليه، ومعنى قول الصديق: "احفظوه فيهم"؛ أي: فلا تؤذوهم ولا تُسيئوا إليهم، ومعنى: «ارقبوا»: راعوه واحترموه وأكرموه، وقد أكد -رضي الله عنه- تلك الحقوق بما قاله لعلي رضي الله عنه: «... والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أَصِلَ من قرابتي» [7].
ومحبة أهل البيت من أصول أهل السنة والجماعة، يقول ابن تيمية: "وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم" [8].
وقد جعل القاضي عياض من علامات محبته صلى الله عليه وسلم: "محبته لمن أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن هو بسببه من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، فمن أحب شيئًا أحب من يحب" [9].
وقال ابن كثير رحمه الله: "ولا ننكر الوصاة لأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وُجِدَ على وجه الأرض فخرًا، وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم" [10].
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شديد الإكرام لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيثارهم على أبنائه وأسرته، ومن ذلك ما رواه الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: "وكان قال لي عمر ذات يوم: أي بني لو جعلت تأتينا وتغشانا؟ فجئت يومًا وهو خالٍ بمعاوية، وابن عمر بالباب ولم يؤذن له، فرجعت فلقيني بعد، فقال: لم أرك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع، فرجعت، فقال: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر، إنما أُنْبِتَ في رؤوسنا ما ترى: الله ثم أنتم، ووضع يده على رأسه" [11].
"لقد كان عمر -رضي الله عنه- يُكِنُّ لأهل البيت محبة خاصة لا يُكِنُّها لغيرهم؛ لقرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إكرام أهل البيت ورعاية حقوقهم، فمن هذا الباعث خطب عمر أم كلثوم ابنة علي وفاطمة -رضي الله عنهم- وتودد إليه في ذلك قائلًا: فوالله ما على الأرض رجل يرصد من حُسْنِ صُحْبَتِهَا ما أرصد، فقال علي: قد فعلت، فأقبل عمر إلى المهاجرين، وهو مسرور قائلًا: رفئوني [12]... ثم ذكر أن سبب زواجه منها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَبَبِي وَنَسَبِي، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَبٌ» [13]، ولقد أقر بهذا الزواج كافة أهل التاريخ والأنساب وجميع مُحَدِّثِي الشيعة" [14].
وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يُقيم الحدود، ويُستشار في شؤون دولة عثمان -رضي الله عنه- فعن حُضَيْن بن المنذر أبي ساسان، قال: «شهدت عثمان بن عفان، وأُتِيَ بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أأزيدكم؟ فشهد عليه رجلان؛ أحدهما حُمْرَان [15] أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: وَلِّ حارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّها -فكأنه وَجَدَ عليه- فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده. فجلده، وعلي يَعُدُّ حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جَلَدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين، وجَلَدَ أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين؛ وكلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إلي» [16]. ويؤخذ من هذا الحديث أن عليًا -رضي الله عنه- كان قريبًا من عثمان ومُعينًا له على طاعة الله، ومشاركًا في اتخاذ القرارات الهامة في الدولة.
مزيد من الشواهد على محبة الصحابة لآل البيت:
لم تقتصر محبة الصحابة لآل البيت على الخلفاء الراشدين فحسب، بل كانت منهجًا عامًا بين الصحابة. فها هو سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أحد العشرة المبشرين بالجنة، يروي حديثًا في فضل علي -رضي الله عنه-، فيقول: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ (آل عمران: 61)، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي» [صحيح مسلم]. وهذا دليل على أن الصحابة كانوا حريصين على نقل فضائل آل البيت، بل وتخصيصهم بالذكر في الرواية.
كما أن الصحابة كانوا يُقدِّمون آل البيت في العطاء والمنزلة. فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ديوان العطاء، فضَّل الحسن والحسين على ابنه عبد الله بن عمر، وقال: "إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى: الله ثم أنتم"، أي أن الفضل في إسلامهم وجهادهم يرجع إلى قرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- [11]. وهذا الإيثار المادي والمعنوي لا يصدر إلا من قلب مُحِبٍّ ومُقدِّر.
وبهذا يتبين لنا تقدير الصحابة -رضي الله عنهم- لأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وحبهم لهم؛ لأنهم وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كان الصحابة -رضي الله عنهم- ليخذلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصيته وأهله، ونحن نعلم مدى حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على تنفيذ أوامره ووصاياه -صلى الله عليه وسلم- فهل يُعقَل أن يُخفوا مروياتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الحب الشديد؟! إن هذا التساؤل المنطقي يكفي لنسف الشبهة من أساسها.
موقف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- من كبار الصحابة:
لم يصح عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- إلا محبة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- في حياتهم وبعد مماتهم؛ فكان يُقدِّرُهم ويُعظِّم مكانتهم، صادقًا في محبتهم، مُخلِصًا في الطاعة لهم، يُجاهد من يُجاهدون، ويُحب ما يُحبون، ويَكره ما يَكرهون، يستشيرونه في النوازل فيُشير مشورة ناصح مُشفِق مُحِبّ، فكثير من سيرتهم بمشورته جرت، وهم يُبادلونه نفس الشعور، ويُقال: إنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- إلا في قلوب أتقياء هذه الأمة، وقال سفيان الثوري: "لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا في قلوب نُبَلاء الرجال" [17]، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "قالوا: إن حب عثمان وعلي لا يجتمعان في قلب مؤمن، كذبوا، فقد جمع الله -عز وجل- حبهما بحمد الله في قلوبنا" [18]. وهذه بعض الأدلة على حب علي -رضي الله عنه- للصحابة الأخيار رضي الله عنهم:
فعن علي -رضي الله عنه- قال: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَشَبَابِهَا بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» [19].
وعن سويد بن غفلة قال: "مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين، مررت بنفر من أصحابك آنفًا يتناولون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له من هذه الأمة أهل، فلولا أنك تُضمِرُ على مثل ما أعلنوا عليه ما تجرءوا على ذلك. فقال علي: ما أُضمِرُ لهما إلا الذي أتمنى المضي عليه، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل. ثم نهض دامع العين يبكي، قابضًا على يدي حتى دخل المسجد، فصعد المنبر وجلس عليه مُتمكِّنًا قابضًا على لحيته ينظر فيها وهي بيضاء، حتى اجتمع له الناس، ثم قام فخطب خطبة موجزة بليغة، ثم قال: ما بال قوم يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمين؟ أنا مما قالوا بريء، وعلى ما قالوا مُعاقِب، ألا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا يُحِبُّهُما إلا مؤمن تقي، ولا يُبغِضُهُما إلا فاجر ردي، صَحِبَا رسول الله على الصدق والوفاء، يأمران وينهيان، وما يُجاوِزان فيما يصنعان رأي رسول الله، ولا كان رسول الله يرى بمثل رأيهما، ولا يُحِبُّ كحُبِّهِما أحدًا، قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهما راض، ومَضَيَا والمؤمنون عنهما راضون، أمر رسول الله أبا بكر لصلاة المؤمنين فصلى بهم تسعة أيام في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قَبَضَ الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- واختار له ما عنده، وَلَّاهُ المؤمنون أمرهم، وقَضَوْا إليه الزكاة؛ لأنهما مَقرُونتان، ثم أعطوه البيعة طائعين غير كارهين، أنا أول من سَنَّ ذلك من بني عبد المطلب، وهو لذلك كاره يود أن أحدنا كفاه ذلك، وكان والله خير من بقي، أرحمه رحمة، وأرأفه رأفة، وأثبته ورعًا، وأقدمه سِنًّا وإسلامًا. فسار فينا سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مضى على ذلك، ثم وَلَّى عمر الأمر من بعده، فمنهم من رضي، ومنهم من كره، فلم يُفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج النبي وكان للمظلومين عونًا راحمًا وناصرًا، لا يخاف في الله لومة لائم، ضرب الله بالحق على لسانه، وجعل الصدق من شأنه، حتى كنا نظن أن مَلَكًا ينطق على لسانه، أعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قِوامًا، ألقى الله تعالى له في قلوب المنافقين الرهبة، وفي قلوب المؤمنين المحبة.. إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما رحمة الله عليهما، ورزقنا المضي على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع آثارهما والحب لهما، ألا فمن أحبني فليحبهما، ومن لم يحبهما فقد أبغضني، وأنا منه بريء، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة، ولكن لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم، ألا فمن أُتِيَ به يقول هذا بعد اليوم، فإن عليه ما على المفتري، ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، ولو شئت سميت الثالث، وأستغفر الله لي ولكم" [20].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "رأيت غلامًا ما أدري غلام هو أم جارية، ما رأيت أحسن منه جالسًا إلى جنب علي بن أبي طالب، فقلت له: عافاك الله، من هذا الفتى إلى جانبك؟ قال: هذا عثمان بن علي، سميته بعثمان بن عفان، وقد سميت بعمر، وبالعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسميت بخير البرية محمد -صلى الله عليه وسلم- وأما حسن وحسين ومحسن، فإنما سماهم رسول الله، وعَقَّ عنهم، وحَلَقَ رؤوسهم، وتصدق بزنتها ذهبًا، وأمر بهم فسموا" [21].
وإلى جانب هذا فقد عُرِفَ بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كانوا من أعظم الناس اختصاصًا بالنبي، وصُحبة له وقُربة إليه، وقد صاهرهم كلهم وكان يُحبهم ويُثني عليهم [22] فكيف لا يُحبهم علي -رضي الله عنه- ولا يعترف بفضلهم؟!
ثالثًا: الأسباب الحقيقية لعدد مرويات آل البيت في دواوين السنة
إن الواقع يشهد أن مرويات آل البيت ليست قليلة في المطلق، بل هي كثيرة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار المفهوم الشامل لـ "آل البيت" الذي يشمل أمهات المؤمنين وبني هاشم. أما إذا قورنت مرويات علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم- بمرويات المُكثِرين من الصحابة؛ كأبي هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة -رضي الله عنهم-، فقد تبدو أقل عددًا، ولكن هذا الفارق الكمي له دواعي واقعية وعقلية ومنهجية لا علاقة لها بـ "إخفاء الصحابة" المزعوم.
الدواعي الواقعية والعقلية لعدد مرويات آل البيت الأربعة:
1) ظروف الرواية والتفرغ:
◘ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كان علي -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، ومن الملازمين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه لم يتفرغ للرواية كغيره من المكثرين. فقد انشغل بالجهاد في سبيل الله، ثم بالفتوى والقضاء في عهد الخلفاء الراشدين، ثم بالخلافة وما صاحبها من فتن وحروب. وقد كان يرى أن الفتوى بما علمه من فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- أهم من مجرد رواية الحديث. كما أن انشغاله بأمور الدولة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ثم انشغاله بالخلافة، كل ذلك قلل من فرصة تفرغه للرواية والتبليغ، بخلاف أبي هريرة الذي تفرغ للرواية بعد إسلامه المتأخر.
◘ فاطمة الزهراء -رضي الله عنها-: هي امرأة، وطبيعة المرأة المسلمة في ذلك العصر كانت تقتضي عدم الاختلاط والتفرغ للبيت، فلم تكن مُلازِمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حِلِّه وتَرحالِه كما كان بعض الصحابة. والأهم من ذلك أنها توفيت بعد أبيها -صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر فقط، فلم يُتَحْ لها الوقت الكافي لتبليغ ما سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت وفاتها المبكرة سببًا رئيسيًا في قلة مروياتها.
◘ الحسن والحسين -رضي الله عنهما-: وُلِدَ الحسن في السنة الثالثة من الهجرة، ووُلِدَ الحسين في السنة الرابعة منها. توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسن أكبرهما لا يتعدى ثماني سنين. فمن الطبيعي جدًا أن تقل مروياتهم لعدم توافر الوقت الكافي لسماع الحديث وحفظه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، حيث أن فترة إدراكهم ووعيهم كانت قصيرة جدًا.
2. منهج علي -رضي الله عنه- في الرواية:
◘ كان علي -رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة، وكان يُفتي الناس بما عَلِمَهُ وفَقِهَهُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن الحاجة ماسة لأن يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا ليستدل به على فتواه، إلا إذا طُلِبَ منه الحديث. كما عُرِفَ عنه شدته في التثبت من الحديث، حتى أنه كان يستحلف الراوي، وهذا المنهج الاحتياطي قلل من عدد مروياته مقارنة بغيره، ولكنه زاد من قيمة مروياته وجودتها.
مرويات آل البيت في كتب السنة: إحصاء وتفنيد:
إن القول بأن مرويات آل البيت لا تتعدى مائة حديث هو محض كذب وافتراء. فكما ذكرنا، مرويات علي -رضي الله عنه- في مسند الإمام أحمد وحده تزيد عن ثمانمائة حديث [مسند أحمد]. وعند جمع مروياته من باقي دواوين السنة، يرتفع العدد بشكل كبير. أما السيدة فاطمة -رضي الله عنها- فلها تسعة أحاديث في مسند أحمد، والحسين -رضي الله عنه- له ثمانية أحاديث [مسند أحمد]. وهذا العدد، وإن كان قليلًا، فهو مبرر بالدواعي الواقعية المذكورة أعلاه، ولا يعني أبدًا الإخفاء.
إن ما يثبت عدم إخفاء كبار الصحابة لمرويات آل البيت هو أن دواوين السنة حَفِظَتْ لنا مرويات لكبار الصحابة عن آل البيت، ولو كان ثَمَّةَ تَعَمُّدُ إخفاءٍ لمروياتهم لأُخفِيَتْ هذه المرويات مع ما أُخفِيَ. بل إن الصحابة كانوا أحرص الناس على نقل فضائل آل البيت ومروياتهم، ومن الأمثلة على ذلك:
1. أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33)» [24].
2. وروى الطبري في تاريخه أن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنه والله ما كان بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي -على مَعْتَبَتِي- من الأخيار، وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبَرَّت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة" [25].
3. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَسَنِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ، وقال أبو هريرة: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا قَالَ» [26].
4. وأخرج الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» [27]. قال الذهبي في "السير": "وروى هذا الحديث عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعائشة وابن مسعود، وأنس، وجابر، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم" [28].
5. أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَرْحَبًا يَا ابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ -أَوْ عَنْ شِمَالِهِ- ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟! ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لِحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ» [29].
6. وأورد الذهبي في السير عن العَيْزَار بن حُرَيْث، قال: "بَيْنَا عمرو بن العاص في ظِلِّ الكعبة، إذ رأى الحسين، فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم" [30].
فلو تَعَمَّدَ كبار الصحابة إخفاء مرويات آل البيت لما رووا في فضلهم شيئًا، وهذه كتب السنة والتاريخ والسير حافلة بمروياتهم في الثناء على آل البيت. كذلك فقد روى كبار الصحابة كعمر وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس وغيرهم كثير عن آل البيت، فكيف يُخفُون مروياتهم وهم الذين بَلَّغُوها للناس؟!
وبهذا يتبين للمُنصِف ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من حب وتقدير لآل بيته -صلى الله عليه وسلم- وما كان لهم أن يُبغِضُوهُم أو يَنتَقِصُوهُم أو يُخفُوا مروياتهم؛ فإن هؤلاء الصحابة اختارهم الله لصحبة نبيه، ولحمل رسالته ودعوته إلى الناس جميعًا، فكانوا كما وصفهم الله سبحانه وتعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29).
الخلاصة:
1. إن آل بيت الرجل هم أصوله وفروعه، ويدخل فيه من باب أولى زوجاته، وهو المفهوم من سياق الآيات في سورة الأحزاب؛ فإن سياق الآية يدل على أن الآية نزلت بخصوص زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
2. وهو أيضًا ما تقتضيه اللغة، وشاهده أيضًا قول الله -سبحانه وتعالى- عن زوجة إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ (هود: 73)، وإطلاق آل البيت على علي وفاطمة والحسن والحسين دون غيرهم يدل على قلة العلم بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
3. كان موقف الصحابة -رضي الله عنهم- واضحًا جليًا من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يُكِنُّوا لهم إلا كل الحب والولاء، تنفيذًا لسنة نبيهم، وهذا ما ظهر واضحًا جليًا من محاولة التقرب منهم بالمصاهرة، ومشاورتهم في كل الأمور المهمة، وهذا ما دفع الصديق إلى قوله: «والذي نفسي بيده لقرابة محمد -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من أن أَصِلَ قرابتي»، وكذلك زواج عمر -رضي الله عنه- من أم كلثوم بنت علي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَبَبِي وَنَسَبِي»، وكذلك كان عثمان -رضي الله عنه- الذي تزوج اثنتين من بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشير عليًا في كافة أموره.
4. أما موقف أهل البيت من الصحابة، فهو موقف من يعرف قدرهم ومكانتهم في الإسلام، لذلك وجدنا الإمام عليًا -رضي الله عنه- نفسه يتوعد من يَسُبُّ الصحابة بالجلد والقتل والتحريق، ووجدنا آل بيته يُقِرُّون بذلك ويَعترفون.
5. لقد حوت دواوين السنة عددًا غير قليل من مرويات آل البيت -علي وفاطمة والحسن والحسين- رضي الله عنهم- فباستقراء مرويات علي وحده في مسند أحمد وجدنا أنها تزيد عن ثمانمائة حديث، فضلًا عن غيره من آل البيت، وفضلًا عن وجود أحاديث له غير مسند أحمد من دواوين السنة، لكنها لا تصل إلى ثلاثمائة ألف كما يدعي بعض المُغالين.
6.إن منشأ القول بقلة مرويات آل البيت جاء من المقارنة بين مروياتهم ومرويات المُكثِرين من الصحابة -الذين تهيأ لهم من الظروف ما لم يتهيأ لغيرهم مثل علي والحسن والحسين وفاطمة- رضي الله عنهم- فمن المعلوم أن حِفظ الحديث وروايته كان يتطلب ظروفًا خاصة؛ لم تتوافر فيهم؛ منها التفرغ، ومعرفة الكتابة، والحرص على سماع الحديث، والملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك.
7.هذا فضلًا عن حداثة أسنان الحسن والحسين، والتي حالت دون كثرة مروياتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما فاطمة؛ فلأن مُلازمتها لزوجها أبعدتها عن إدراك كثير من أحاديث أبيها -صلى الله عليه وسلم- كما أنها لَحِقَتْ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته بستة أشهر.
8.وأما علي فإن مروياته ليست قليلة كما أسلفنا، وإن قَلَّتْ بمقارنتها بمرويات المُكثِرين؛ فإن ذلك مُبَرَّرٌ بأسباب عقلية وواقعية، لا مَناصَ للمُنصِف من الإذعان لها؛ منها عدم تفرغه وانشغاله، وعدم حضوره لكثير من المواقع الكبرى؛ كالهجرة، وغزوة تبوك وغيرها.
___________________________________
[1] صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل علي بن أبي طالب، (8/ 3541)، رقم (6108).
[2] صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، (10/ 196)، رقم (4039). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3205).
[3] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (22/ 16).
[4] صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (8/ 3541)، رقم (6108).
[5] فيض القدير، المناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (3/ 20).
[6] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم… (7/ 97)، رقم (3713).
[7] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (7/ 97)، رقم (3712).
[8] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: عامر الجزار وأنور الباز، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (3/ 154) بتصرف.
[9] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (2/ 26).
[10] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، (4/ 113).
[11] تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، د. ت، (14/ 175، 176) بتصرف.
[12] رفئوني: من رفأه: إذا قال له: بالرفاء والبنين.
[13] صحيح: أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب: النكاح، باب: الأنساب كلها منقطعة يوم… (7/ 63)، رقم (13776). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2036).
[14] أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2003م، ص177، 178.
[15] حمران: هو مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[16] صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، (6/ 2653)، رقم (4377).
[17] حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ، (7/ 32).
[18] الشريعة، الآجري، تحقيق: الوليد بن محمد بن نبيه سيف النصر، مؤسسة قرطبة، القاهرة، ط2، 1432هـ/ 2003م، (3/ 22).
[19] صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب، (2/ 37، 38)، رقم (602). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[20] النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، ضياء الدين المقدسي، تحقيق: د. محمد أحمد عاشور، دار الذهبية، القاهرة، د. ت، ص7.
[21] الرياض النضرة في مناقب العشرة، المحب الطبري، ص218.
[22] أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2003م، ص199: 201 بتصرف.
[23] صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (1/ 153، 154)، رقم (2). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[24] صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، (8/ 3556)، رقم (6144).
[25] تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1407هـ/ 1987م، (5/ 581).
[26] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: اللباس، باب: السخاب للصبيان، (10/ 344). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل الحسن والحسين، (8/ 3555)، رقم (6139).
[27] صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين، (10/ 185، 186)، رقم (4020). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3768).
[28] سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 282) بتصرف.
[29] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، (6/ 726)، رقم (3623، 3624).
[30] سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 285).