تُعَدّ عقيدة التقية من أبرز أصول الفرقة الشيعية الإمامية الاثني عشرية، وهي من المسائل التي خالفوا فيها جماعة المسلمين أهل السنّة والجماعة، حتى صارت شعارًا لمذهبهم ومفتاحًا لتأويلاتهم الباطنية. وقد ادّعى الرافضة أن الأئمة المعصومين – بزعمهم – كانوا يأمرون أتباعهم بالتقية خوفًا من الظالمين، إلا أن نصوصهم المتناقضة تكشف أن هذه العقيدة لم تكن إلا وسيلة للتلبيس وإخفاء الحقائق، حتى صارت أساسًا لتبرير الكذب وتبديل الأحكام وفق المصالح المذهبية والسياسية.
ومن خلال تتبّع رواياتهم وأقوال كبار علمائهم يتبين بوضوح اضطرابهم الشديد في تحديد زمن التقية، وحدودها، ومَن تجب عليه، فمرة يزعمون أنها رُفعت في عهد الباقر والصادق، ومرة أخرى يقرّون بشدتها في زمن الكاظم والرضا! بل ويصرّح بعضهم أن كتبهم وضعت على سبيل التقية، ثم ينفون ذلك تمامًا.
هذا المقال يرصد – بالأدلة من كتبهم – التناقض الداخلي في هذه العقيدة، وكيف أن القول بها يهدم دعوى العصمة والعلم بالغيب التي نسبوها لأئمتهم، ويُظهر بطلان أساس المذهب الاثني عشري من جذوره، إذ لا يُعقل أن يتقي من زعموا أنه يعلم ما في الصدور، ويملك علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
إنها دراسة نقدية تكشف تهافت هذه العقيدة وتناقضها مع صريح القرآن والسنة والعقل، وتوضح كيف جعلها الرافضة ذريعة لترويج مذهبهم الباطل عبر القرون، تحت ستار "الخوف" و"الكتمان"، في حين أن التاريخ نفسه يشهد أنهم عاشوا في عصورٍ كان لهم فيها السلطان والحرية الكاملة دون تقية ولا خوف.
نقد عقيدة التقية عند الشيعة:
ثم إن القوم يرون أن التقية كانت حتى زمن الإمام زين العابدين رحمه الله، ثم زالت أيام الإمامين الباقر والصادق رحمهما الله، فأظهرا العلم وحثا أصحابهما على كتابته ونشره.
والمعلوم أن جل روايات التقية التي عليها بنيان المذهب كانت منهما - أي: الباقر والصادق - رحمهما الله كما رأيت.
يقول الطبرسي:
فقد ظهر عن الباقر والصادق عليهما السلام - لما تمكنا من الإظهار وزالت عنهما التقية التي كانت على زين العابدين عليه السلام - من الفتاوى في الحلال والحرام، والمسائل والأحكام، وروى الناس عنهما من علوم الكلام، وتفسير القرآن، وقصص الأنبياء، والمغازي، والسير، وأخبار العرب وملوك الأمم ما سمي أبو جعفر عليه السلام لأجله باقر العلم، وروى عن الصادق عليه السلام في أبوابه من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب هي معروفة بكتب الأصول، رواها أصحابه وأصحاب أبيه من قبله، وأصحاب ابنه أبي الحسن موسى عليهم السلام، ولم يبق فن من فنون العلم إلا روي عنه عليه السلام فيه أبواب[1].
ويقول اللواساني:
وقد برز منه - أي: الباقر عليه السلام _ من أنواع العلوم في الفقه، والحكمة والكلام وغيرها ما ملأ الخافقين، ولذلك انتشرت جل الأحكام الشرعية - لو لم نقل كلها - منه عليه السلام ومن ابنه الصادق عليه السلام، وذلك لما صادف لهما في عصرهما من الفسحة عن التقية، من جهة اشتغال الفريقين المعاديين لأهل البيت - وهم بنو أمية وبنو العباس - بالحرب بينهم على الملك والسلطنة، ولذلك خص عليه السلام باللقب المذكور دون آبائه وأبنائه المعصومين، مع استوائهم في العلم والفضل وسائر المكارم، واشتراك جميعهم في النور والروح والطينة[2].
يقول أحدهم في هذا الباب: إن بني أمية وبني العباس كانوا مشغولين بأنفسهم في المحاربة، وأوائل زمان الصادق عليه السلام - أيضاً - كان كذلك[3].
ويقول آخر: ... لأن الأزمنة كانت أزمنة تقية وخوف، وكان تركهم لذلك - أي وجوب الجمعة -، ولما علم عليه السلام في خصوص هذا الزمان كسر سورة التقية؛ لأن دولة بني أمية زالت ودولة بني العباس لم تستقر بعد، فلذا أمره بفعلها[4].
وقال آخر في سياق رفع التناقض في إحدى المسائل: أن أبا بصير كان قد سمع الباقر عليه السلام في عصره، وسمع الصادق عليه السلام في أوائل عهده يأمران بكل ذبائح أهل الكتاب، وحيث إن في تلك الفترة كان الوضع مواتياً للأئمة عليهم السلام أن يعلنوا عن الحقائق الدينية باعتبارها فترة ضعف بني أمية وانشغالهم عن مسائل الدين بأنفسهم، فلم يكن ذلك العهد عهد تقية أو خوف، بل عهد نشر العلم والإعلان (عن مر الحق) كما في بعض النصوص[5].
ويروون عن الصادق رحمه الله قوله:
« كان أبي يفتي في زمن بني أمية: أن ما قتل الباز والصقر فهو حلال، وكان يتقيهم، وأنا لا أتقيهم، فهو حرام ما قتل، وقال: كان أبي يفتي وكنا نحن نفتي ونخاف في صيد البزاة والصقور، فأما الآن فإنا لا نخاف، ولا يحل صيدها» [6].
ويقول آخر: على أن بعض النصوص السابقة من الباقر (ع) الذي كانت التقية في زمانه في غاية الضعف.. إلى أن قال: ولذا ضعفت التقية في زمانه، مع أن بني أمية وبني العباس كان بعضهم مشغولاً ببعض[7].
ثم بدأ التناقض كشأنهم في جل أقوالهم، فقالوا بكثرة وقوع التقية من الصادق عليه السلام، بخلاف الباقر عليه السلام[8].
ثم ازدادت زمن الكاظم رحمه الله، يقول أحدهم:
روايات الكاظم عليه السلام أقرب إلى التقية من روايات الباقر، بل الصادق عليهما السلام، فتحمل حينئذ على التقية[9].
وقال: إن في زمن الكاظم عليه السلام كانت التقية في زمانه في غاية الشدة[10].
وقال آخر: فيظهر منه أن روايته عن الكاظم عليه السلام كان تقية، ويؤيده نهاية شدة التقية في زمانه عليه السلام، ولذا قد كثر منه ما يوافق التقية[11].
وجاء آخر وهو يتكلم عن علة عدم اشتهار كتاب فقه الرضا، فقال: ومن البعيد جداً أن تكون التقية مانعة من ظهور هذا الكتاب، لأن الإمام كان في عصر المأمون في حرية من نشر أفكاره نوعاً ما وخصوصاً في مناظراته مع علماء الأمصار، علما بأن قم كانت آنذاك منبع الشيعة، وفيها علماء عظام يظهرون رأيهم في كل صغيرة وكبيرة، فلا يعقل أن يكون إخفاؤه من باب التقية، فتأمل، بعكس عصر الأئمة الذين سبقوه في الدولة الأموية، وردحاً من زمان العباسيين[12].
وقال آخر: فشتان ما بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة[13].
ثم يجيء آخر ليقول: أكثر الأخبار المروية عن الرضا عليه السلام ظاهرة في التقية، لأنه - عليه السلام - كان في خراسان، وفي أكثر الأوقات كان في مجلسه جماعة من رؤسائهم كما هو الشائع من الآثار[14].
فهذا ينكر أسباب التقية في زمن الباقر والصادق رحمهما الله لانشغال الأمويين والعباسيين بأنفسهم، وذلك يؤكده في زمانهما وزمان الكاظم، ويرفعه في زمن الرضا، ثم يأتي آخر ليؤكدها في زمن الرضا ليقول بأنها كانت في أهل بيته إلى أواخر زمان السابع من الأئمة كاظمهم عليه السلام، ثم اشتدت التقية في آخر زمانه وحيل بينهم بعد ذلك وبين الأمة بالحبس، أو ما يقوم مقامه من التقية الشديدة[15].
واعلم أن علماء الشيعة الذي أسسوا بنيان التشيع ووضعوا قواعده كانوا في عز الدول الشيعية، وذلك مما يستحيل معه القول بالتقية، ويستفاد من كتب التاريخ أن حكام بني بويه استولوا على إيران وبغداد سنة (334هـ)، فمنحهم الخليفة المستكفي بالله العباسي الولاية على ما بأيديهم من إيران والعراق، وبقي ملكهم على العراق حتى سنة (447هـ) حين استولى عليها السلاجقة، ولما استولت الدولة البويهية على العراق وقبض ملوكها بأزمة الأمور - وهم شيعة إماميون إثنا عشريون - قوي أمر الشيعة، وتحرروا في شعائرهم الدينية ومراسيمهم المذهبية، وكانت الرئاسة الدينية للشيعة في ذلك العهد منتهية إلى الشيخ المفيد، وقد سعى زعماء هذه السلالة في نشر مذهب التشيع، وجاء في كتب التاريخ - أيضاً - أن بعض حكام بني بويه كانوا يقيمون مجالس المناظرة والاحتجاج بين علماء الأديان والمذاهب، ويتطرقون إلى بحث المسائل الأساسية التي أدت إلى اختلاف المسلمين وفرقتهم، وتأييد من يظهر على غيره بالدليل العقلي والنقلي، وتأييد من يكون الحق إلى جانبه، فعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى مناظرات متعددة كانت للشيخ الصدوق في مجلس ركن الدولة، وما حظي به من ثناء من قبل ركن الدولة، وقد سعى معظم حكام بني بويه إلى أن يختاروا وزراءهم من العلماء ومن المؤالفين لمذهب التشيع بقدر الإمكان، فمن وزرائهم برز علماء كبار، مثل أبي الفضل محمد بن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة وفخر الدولة، وأبي علي ابن سينا وزير شمس الدولة، فقد حرص أكثر بني بويه - ولا سيما زعماء هذه السلالة - على إحياء عقائد الشيعة، ففي محرم من عام (352هـ) كان معز الدولة من جملة الخارجين في بغداد للعزاء والنوح على الحسين رضي الله عنه، واستمر الحال كذلك لسنوات طويلة كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية، وأبو الفرج في المنتظم.
وفي الثامن عشر من شهر ذي الحجة للسنة نفسها (352هـ) أقاموا المهرجانات بشكل رسمي بمناسبة عيد غدير خم، واستمروا على ذلك سنين مديدة، وفي عام (363هـ-974م) أمر عضد الدولة بنصب لوح على تخت جمشيد خطت عليه أسماء الأئمة الإثني عشر مع عبارات السلام والتحيات عليهم، وجسد ميوله الشيعية من خلال بنائه لمرقد أمير المؤمنين الإمام علي رضي الله عنه في النجف، ومرقد الإمام الحسين رضي الله عنه في كربلاء، ولما توفي دفن إلى جوار مرقد الإمام علي رضي الله عنه.
ويعترفون بأن أهم ما كسبه الشيعة في عهد بني بويه هو التجاهر بمعتقداتهم دون اللجوء إلى التقية.
وفي هذه الحقبة اتخذ مذهب الدولة طابع التشيع دون الإعلان عن ذلك رسمياً، وقد استقطب ذوي العلم والفكر إليه، لا سيما التجار وكبار المسؤولين وعمال الدولة الذين كانوا يسكنون جانب الكرخ، وعمال دار الحكومة، بل حتى الذين يعملون في دار الخلافة.
ويقولون: إن عزيمة أقطاب هذه السلالة وحزمهم في الدعوة إلى الحق وتعلقهم بأهل البيت عليهم السلام وحسن سيرتهم مع الرعية وما رافق ذلك من همة عالية لكبار علماء الشيعة أمثال الشيخ الصدوق رحمه الله والشيخ المفيد رحمه الله، وما شهده ذلك العصر من مناظرات بين علماء المذاهب الإسلامية، كل ذلك يعد من مفاخر هذه السلالة، ففي ذلك العصر الذي اتسم بالحرية استطاع الشيخ الصدوق والشيخ المفيد وسائر العلماء توطيد أركان المذهب الشيعي والترويج له، فشق طريقه إلى سائر الأمصار الإسلامية بقوة.
وكذلك في زمن العلامة الحلي، فقد قالوا:
إن العلماء استطاعوا أن يأخذوا حريتهم لنشر المعارف وترويجها، وذلك لوجود السلطان محمد خدابنده، الذي اختار مذهب الإمامية بفضل العلامة الحلي، وبعد ما استبصر هذا السلطان لم يرض بمفارقة العلامة، بل طلب منه أن يكون دائماً معه، وأسس له المدرسة السيارة ليكون هو وتلاميذه دائما معه، وفي عصر العلامة أرجعت الحلة إلى مكانتها العلمية، فصارت محورا رئيساً للعلم والعلماء، ومركزا للشيعة، وازدهر العلم في زمنه، وكثر العلماء في شتى العلوم، حتى نقل المولى الأفندي أنه كان في عصره في الحلة أربعمائة وأربعون مجتهداً، وهذا - وإن لم يرتضه سيد الأعيان - إلا أن الشيخ (آقا بزرك) قال في طبقاته (الحقائق الراهنة في المائة الثامنة): وأما تلاميذه فكثير ممن ترجمته في هذه المائة كانوا من تلاميذه والمجازين منه أو المعاصرين المستفيدين من علومه، فليرجع إلى تلك التراجم حتى يحصل الجزم بصدق ما قيل من أنه كان في عصره في الحلة أربعمائة مجتهد، ونقل السيد الصدر أنه تخرج من عالي مجلس تدريس العلامة خمسمائة مجتهد، ويؤيد هذا أنا لو تفحصنا في كتب التراجم لوجدنا أن جل علماء الشيعة كانوا في زمن العلامة ما بين القرن السابع والثامن، وهذه البرهة من الزمن بها تم تثبيت قواعد التشيع أكثر من سابقها[16].
لذا فهم يقرون بعدم صدور أي كتاب من كتب الشيعة عبر التاريخ على سبيل التقية، يقول السبحاني: ولكن لا تجوز التقية مطلقاً في بيان معارف الدين وتعليم أحكام الإسلام، مثل أن يكتب عالم شيعي كتاباً على أساس التقية، ويذكر فيه عقائد فاسدة، وأحكاماً منحرفة على أنها عقائد الشيعة وأحكامهم، ولهذا فإننا نرى علماء الشيعة أظهروا في أشد الظروف والأحوال عقائدهم الحقة، ولم يحدث طيلة التاريخ الشيعي - ولا مرة واحدة - أن أقدم علماء الشيعة على تأليف رسالة أو كتاب على خلاف عقائد مذهبهم بحجة التقية، وبعبارة أخرى: أن يقولوا شيئاً في الظاهر، ويقولوا في الباطن شيئاً آخر، ولو أن أحداً فعل مثل هذا العمل وسلك مثل هذا المسلك أخرج من مجموعة الشيعة الإمامية[17].
والمعلوم أن كثيراً من كتب الشيعة - خلافاً لما قاله السبحاني - قد وضعت على التقية، ككتاب التبيان للطوسي مثلاً، حيث قالوا: لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين؛ فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم، ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة عليهم السلام إلا قليلاً في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون، بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذي حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم، وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة، فمن المحتمل أن يكون هذا القول منه نحو ذلك، ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجليل علي بن طاوس في سعد السعود وهذا لفظه: نحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر بن الحسن الطوسي في كتاب التبيان، وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني والخلاف في أوقاته[18].
وكذلك كتابيه (الاستبصار) و(التهذيب) حيث قالوا: إنه سلك في الكتابين مسلك العامة تقية واصطلاحاً ومماشاة لهم، حيث شنعوا على فضلاء الشيعة بأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليس لهم قدرة على التفريع والاستدلال[19].
وكتاب (كشف الغمة في معرفة الأئمة) للإربلي، حيث قالوا: كما فعل الإربلي على سبيل المثال في (كشف الغمة)، وقد ذكرنا أنه كان يستخدم التقية في كتابه[20].
وغيرهما كثير فكيف يزعمون أنه لم يُصنَّف كتاب من قبل علمائهم على سبيل التقية؟!
أما نحن فنعلم لأي شيء حملوا هذين الكتابين وغيرهما على التقية وناقضوا أنفسهم فيهما؛ فالأول أنكر التحريف في القرآن، والآخر ذكر العديد من روايات المدح في الصحابة، وكأن الأصل في الاعتقاد هو القول بالتحريف والطعن في الصحابة رضي الله عنهم، وسيأتي تفصيل أكثر لهذا، فتأمل!
وقد أورد القوم ما يسقط ما نسب إليهما، حيث ذكروا عن الصادق أنه قال: إن الله أنزل وصيته من السماء على محمد كتاباً وعليها خواتيم لكل إمام، وكان فيما يخص خاتم زين العابدين أن: اصمت واطرق لما حجب العلم، فلما توفي ومضى دفعه إلى محمد بن علي عليهما السلام، ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن: فسر كتاب الله تعالى، وصدق أباك، وورث ابنك، واصطنع الأمة، وقم بحق الله، وقل الحق في الخوف والأمن، ولا تخش إلا الله. ففعل، وفي رواية: أن خاتم زين العابدين فيه: أن اطرق والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. ففعل، ثم دفعه إلى الباقر، ففك خاتماً فوجد فيه أن: حدث الناس وأفتهم، ولا تخافن إلا الله عز وجل؛ فإنه لا سبيل لأحد عليك ففعل، ثم دفعه إلى ابنه الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم، وانشر علوم أهل بيتك، وصدق آباءك الصالحين، ولا تخافن إلا اللهعز وجل، وأنت في حرز وأمان، ففعل[21].
فانظر كيف توفق بينهما، ثم أضف إلى ذلك أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأن ذلك إليهم كما يعتقد القوم، وعقدوا لذلك أبواباً مستقلة من مصنفاتهم، كباب: (أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا بإختيار منهم)، و(باب في الأئمة أنهم يعرفون متى يموتون ويعلمون ذلك قبل أن يأتيهم الموت)، ولا بأس بذكر بعض روايات هذه الأبواب:
فعن الصادق أنه قال: « أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير فليس ذلك بحجة لله على خلقه».
وعن الباقر: « أنه أتى علي بن الحسين عليهما السلام ليلة قبض فيها بشراب فقال: يا أبت! اشرب هذا. فقال: يا بني! ان هذه الليلة التي أقبض فيها».
وعن الصادق قال: «قال أبي لي ذات يوم: إنما بقي من أجلي خمس سنين، فحسبت فما زاد ولا نقص» [22].
بل إن ذلك إلى آحاد أصحاب الأئمة كما يروي القوم، كحال رشيد الهجري الذي كان يلقى الرجل ويقول له: يا فلان بن فلان! تموت ميتة كذا، وانت - يا فلان - تقتل قتلة كذا، فيكون الأمر كما قال.
وعن إسحاق قال: سمعت العبد الصالح أبا الحسنعليه السلام ينعى إلى رجل نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته؟! فقال شبه الغضب: قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا، فالإمام أولى بذلك. وفي رواية: فأضمرت في نفسي كأنه يعلم آجال شيعته، قال: يا إسحاق! وما تنكرون من ذلك وقد كان رشيد الهجري مستضعفاً وكان يعلم علم المنايا والبلايا؟! فالإمام أولى بذلك. ثم قال: يا إسحاق تموت إلى سنتين[23].
وأضف إلى ذلك ما دلت عليه هذه الرواية الاخيرة من علم الأئمة لضمائر العباد، وقد جعلوا لذلك وأمثاله أبواباً أيضاً، كباب: (أنهم يعرفون الإضمار وحديث النفس قبل أن يخبروا به)[24].
وباب: (أنهم يخبرون شيعتهم بأفعالهم وسرهم وأفعال غيبهم وهم غيب عنهم)[25].
وباب: (أنهم يعلمون من يأتي أبوابهم ويعلمون بمكانهم من قبل أن يستاذنوا عليهم)[26].
وباب: (أنهم يعرفون آجال شيعتهم وسبب ما يصيبهم)[27].
فكيف يتقي من كان هذا حاله وشأنه؟!
وما دمنا هنا بصدد ذكر ما ينافي القول بالتقية فإنا نورد في عجاله ما يفيد من أمثال هذه الأبواب، فمن ذلك:
باب: أنهم عرض عليهم ملكوت السموات والأرض، ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة[28].
باب: أنهم يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وبحقيقة النفاق، وعندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء شيعتهم وأعدائهم، وأنه لا يزيلهم خبر مخبر عما يعلمون من أحوالهم[29].
باب: أنه لا يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم وما تحتاج إليه الأمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا ويصبرون عليها، ولو دعوا الله في دفعها لأجيبوا، وأنهم يعلمون ما في الضمائر وعلم البلايا وفصل الخطاب والمواليد[30].
باب: أن عندهم الاسم الأعظم، وبه يظهر منهم الغرائب[31].
باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء[32].
باب: أنهم سخر لهم السحاب ويسر لهم الأسباب[33].
وغيرها من الأبواب.
وأنت ترى كيف أن هذه المعتقدات ينتقض بعضها بعضاً، كالباطل الذي يحطم بعضه بعضاً، فبحسب أي امرئ أن يملك أحدها حتى يكون أبعد ما يكون عن الأخذ بالتقية، فكيف بمن ملكها جميعاً، ناهيك عن أن يكون ممن نصبه الله علما لعباده.
والغريب أنهم يرون ذلك في ردهم على القول بأنه لو جازت التقية مع فقد أسباب التقية لم نأمن في أكثرها مما ظهر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون على سبيل التقية، قالوا: هذا باطل؛ لأنا قد بينا ان اسباب التقية كانت ظاهرة لم تكن مفقودة، فأما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنما لم تجز التقية عليه لأن الشريعة لا تعرف إلا من جهته، ولا يوصل إليها إلا بقوله، فمتى جازت التقية عليه لم يكن لنا إلى العلم بما كلفناه طريق[34].
بينما يقول آخر: إن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكم الإمام سيان في التقية..[35].
فهم يرون أن الإمامة - كالنبوة - لطف من الله عز وجل، فلا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى، فقد رووا عن الصادق أنه قال: «إن الله لا يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا أكمله لهم فقال: خذوه كاملاً ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ولم يفرق بين الحق والباطل» [36].
وقوله: «.... ولا تبقى الأرض يوماً واحداً بغير إمام منا تفزع إليه الأمة» [37].
بل ولا ساعة، فعن الباقر: « لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» [38].
وقوله: «لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت» [39].
بل ولا أقل من ذلك، حيث ذكروا أن الرضا سئل عن ذلك فقال: « لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها» [40].
وعن الصادق قال:
«لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام، وإن آخر من يموت الإمام، لئلا يحتج أحدهم على الله عز وجل تركه بغير حجة» [41].
فشابه الأمر بذلك قولهم في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنف الذكر.
فأمام كل هذا الاضطراب في التقية الذي خلقه المندسون في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ووضعوا مذهب التشيع الذي ينتمي إليه جل الشيعة ونسبوه إلى الأئمة، حتى رووا في ذلك أن زرارة قال للباقر: « إن في حديث الشيعة ما هو أعجب من أحاديث بني إسرائيل، فقال: فأي شيء هو يا زرارة؟ قال: فاختلس في قلبي، فمكثت ساعة لا أذكره ما أريد، فقال: لعلك تريد التقية؟ قال: نعم، قال: صدق بها؛ فإنها حق» [42].
فأمام كل هذا الدسحسم أئمة أهل البيت ذلك بالدعوة إلى رد كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن الباقر قال:
«كل من تعدى السنة رد إلى السنة. وفي رواية: من جهل السنة رد إلى السنة» [43].
وعن الصادق قال:
«كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» [44].
[1] إعلام الورى بأعلام الهدى، للطبرسي (2/200)، كشف الغمة للإربلي (3/318)، الموسوعة الفقهية الميسرة للأنصاري (3/408).
[2] نور الأفهام في علم الكلام، للسيد حسن الحسيني اللواساني (2/88 (ش)).
[3] حاشية مجمع الفائدة والبرهان، للوحيد البهبهاني (374).
[4] بحار الأنوار للمجلسي (86/164).
[5] ذبائح أهل الكتاب، للمفيد (10).
[6] رياض المسائل، لعلي الطباطبائي (12/45)، مسالك الأفهام، للشهيد الثاني (11/410 (ش)).
[7] جواهر الكلام، للجواهري (9/363).
[8] جواهر الكلام، للجواهري (26/36).
[9] جواهر الكلام، للجواهري (1/413).
[10] جواهر الكلام، للجواهري (2/15).
[11] حاشية مجمع الفائدة والبرهان، للوحيد البهبهاني (164).
[12] فقه الرضا لعلي بن بابويه ص (25).
[13] أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، لجعفر السبحاني (418)، الاعتصام بالكتاب والسنة، لجعفر السبحاني (332).
[14] الحدائق الناضرة، ليوسف البحراني (3/150).
[15] نور البراهين، لنعمة الله الجزائري (1/382).
[16] انظر مثلاً: الهداية، للصدوق، مقدمة لجنة التحقيق (132)، المقنعة، للمفيد (12)، إرشاد الأذهان، للعلامة الحلي (1/51)، قواعد الأحكام، للعلامة الحلي (1/32)، مختلف الشيعة، للعلامة الحلي (1/32).
[17] العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (ع)، لجعفر السبحاني (277).
[18] انظر: سعد السعود لابن طاوس (287).
[19] أنظر: طرائف المقال، لعلي البروجردي (2/466، 647).
[20] انظر: حوار مع فضل الله حول الزهراء، لهاشم الهاشمي (361).
[21] الكافي للكليني (1/279، 281) الغيبة للنعماني (24، 35) بحار الأنوار للمجلسي (36/192)، أمالي الصدوق (486)، كمال الدين للصدوق (670)، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب(1/257).
[22] انظر تفصيل ذلك كله في: الكافي للكليني (1/258) وفيه (8) روايات، بحار الأنوار للمجلسي (27/285- 287) وفيه (6) روايات، بصائر الدرجات للصفار (480- 484) وفيه (14) رواية، إعلام الورى (262) بحار الأنوار للمجلسي (46/268) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب(3/320).
[23] انظر: التوحيد للصدوق (350) بصائر الدرجات للصفار (73)، بحار الأنوار للمجلسي (42/122، 123).
[24] بصائر الدرجات للصفار (235- 242)، وفيه (27) رواية.
[25] بصائر الدرجات للصفار (242- 253)، وفيه (23) رواية.
[26] بصائر الدرجات للصفار (257- 258)، وفيه (3) روايات.
[27] بصائر الدرجات للصفار (262- 266)، وفيه (16) رواية.
[28] بحار الأنوار للمجلسي (26/109- 117) وفيه (22) رواية، بصائر الدرجات للصفار (106- 108) وفيه (11) رواية (127- 128)، وفيه (6) روايات.
[29] بحار الأنوار للمجلسي (26/117- 132) وفيه (40) رواية، بصائر الدرجات للصفار (190- 192) وفيه (6) روايات (170- 173) وفيه (10) روايات.
[30] بحار الأنوار للمجلسي (26/137- 154) (43) رواية، بصائر الدرجات للصفار (122- 127) وفيه (17) رواية.
[31] بحار الأنوار للمجلسي (27/25- 28) وفيه (10) روايات، بصائر الدرجات للصفار (208- 219) وفيه (37) رواية.
[32] بحار الأنوار للمجلسي (27/29- 31) وفيه (4) روايات، بصائر الدرجات للصفار (269- 274) وفيه (13) رواية.
[33] بحار الأنوار للمجلسي (27/32) (40) وفيه (5) روايات.
[34] بحار الأنوار للمجلسي (28/400).
[35] كمال الدين للصدوق (50).
[36] بحار الأنوار للمجلسي (23/21).
[37] كمال الدين للصدوق (230)، بصائر الدرجات للصفار (531)، بحار الأنوار للمجلسي (23/42، 53)، إثبات الهداة (1/130).
[38] كمال الدين للصدوق (202)، بحار الأنوار للمجلسي (23/34)، شرح أصول الكافي للمازندراني (5/127)، ميزان الحكمة للريشهري (1/118)، التفسير الصافي (3/129).
[39] كمال الدين للصدوق (201)، الغيبة للطوسي (220)، بحار الأنوار للمجلسي (23/21،51/211)، نور الثقلين للحويزي (4/369)، منتخب الأنوار المضيئة (65).
[40] بصائر الدرجات للصفار (509)، عيون أخبار الرضا (2/247)، إثبات الهداة (1/101، 106)، بحار الأنوار للمجلسي (23/29، 108/312)، مسند الإمام الرضا (1/88، 89)، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع) (4/176).
[41] علل الشرائع للصدوق (1/196)، بحار الأنوار للمجلسي (23/21)، إثبات الهداة (1/80)، درر الأخبار لخسرو شاهي (198).
[42] بصائر الدرجات للصفار (260)، بحار الأنوار للمجلسي (2/237)، الخرائج والجرائح للراوندي (2/734).
[43] المحاسن، للبرقي (1/221)، الكافي، للكليني (1/71)، بحار الأنوار للمجلسي (2/243)، جامع أحاديث الشيعة، للبروجردي (1/123)، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، لهادي النجفي (5/200).
[44] الكافي، للكليني (1/69)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (18/79)، مشكاة الأنوار، للطبرسي (266)، بحار الأنوار للمجلسي (2/242، 96/262(ش))، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، لهادي النجفي (5/199، 9/288)، تفسير العياشي (1/9).