الحمد لله الذي أنزل القرآن هدى ورحمة للعالمين، وجعله محفوظًا من التبديل والتحريف، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن من أخطر ما واجه الإسلام منذ ظهوره، تلك الفِرَق التي خرجت عن جماعة المسلمين وابتدعت في دين الله ما ليس منه، ومن أبرز هذه الفرق الشيعة الرافضة الذين لم يكتفوا بالطعن في الصحابة رضوان الله عليهم، بل تجاوزوا ذلك إلى الطعن في كتاب الله العظيم من خلال أحاديث موضوعة وتأويلات باطلة تخالف ما أجمع عليه أهل العلم والقراءة.
ومن المسائل التي حاول الرافضة إثارة الشبهة حولها مسألة البسملة بين السور، إذ زعموا ما يخالف إجماع القراء العشرة وأئمة المسلمين، فجعلوا سورًا متصلة وأخرى بلا بسملة، مخالفين بذلك النص القرآني الثابت والرسم العثماني الذي أجمعت عليه الأمة.
هذا المقال يسلّط الضوء على حكم البسملة بين السور عند القراء العشرة، ويكشف بالدليل انحراف الروافض في هذه المسألة وغيرها، مبينًا كيف يستغلون الأحاديث الباطلة والمرويات الضعيفة لتمرير عقائدهم الفاسدة.
باب البسملة:
أجمع القراء العشرة على الإتيان بالبسملة عند الابتداء بأول كل سورة، سواء كان الابتداء عن قطع أم عن وقف، والمراد بالقطع ترك القراءة رأسا والانتقال منها لأمر آخر. والمراد بالوقف قطع الصوت على آخر السورة السابقة مع التنفس ومع نية استئناف القراءة لأنه بوقفه على آخر السورة السابقة وقطع صوته على آخر كلمة فيها مع التنفس يعتبر مبتدئا للسورة اللاحقة وإن كان مريدا استئناف القراءة فلابد حينئذ من البسملة لجميع القراء، وهذا الحكم عام في كل سورة من سور القرآن إلا براءة فلا خلاف بينهم في ترك البسملة عند الابتداء بها. واختلفوا في حكم الإتيان بها؛ فذهب ابن حجر والخطيب إلى أن البسملة تحرم في أولها وتكره في أثنائها.
وذهب الرملي ومشايعوه إلى أنها تكره في أولها وتسن في أثنائها كما تسن في أثناء غيرها.
وأما الابتداء بأواسط السور فيجوز لكل منهم الإتيان بالبسملة وتركها، لا فرق في ذلك بين براءة وغيرها واستثنى بعضهم وسط براءة فألحقه بأولها في عدم جواز الإتيان بالبسملة لأحد من القراء، وذهب بعضهم إلى أن البسملة لا تجوز في أوساط السور إلا لمن مذهبه الفصل بها بين السورتين.
وأما من مذهبه السكت أو الوصل بين السورتين فلا يجوز له الإتيان بالبسملة في أواسط السور. وعلى هذا المذهب تكون أوساط السور تابعة لأولها. فمن بسمل في أولها بسمل في أثنائها، ومن تركها في أولها تركها في أوساطها؛ والمراد بأوساط السور ما بعد أوائلها ولو بآية أو بكلمة.
وأما حكم ما بين كل سورتين فاختلف القراء العشرة فيه؛ فذهب قالون وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر إلى الفصل بالبسملة بين كل سورتين، وذهب حمزة وخلف إلى وصل آخر السورة بأول ما بعدها من غير بسملة، وروي عن كل من ورش وأبى عمرو وابن عامر ويعقوب ثلاثة أوجه البسملة، والسكت، والوصل: والمراد بالسكت الوقف على آخر السابقة وقفة لطيفة من غير تنفس قدر سكت حمزة على الهمز. والمراد بالوصل وصل آخر السورة بأول تاليتها، ولا بسملة مع السكت ولا مع الوصل، وهذا الحكم عام بين كل سورتين سواء أكانتا مرتبتين كآخر البقرة وأول آل عمران، أم غير مرتبتين كآخر الأعراف مع أول يوسف لكن يشترط أن تكون الثانية بعد الأولى في ترتيب القرآن والتلاوة كما مثلنا. فان كانت قبلها فيما ذكر كأن وصل آخر الرعد بأول يونس تعين الإتيان بالبسملة لجميع القراء ولا يجوز السكت ولا الوصل لأحد منهم. كذلك لو وصل آخر السورة بأولها كأن كرر سورة من السور فان البسملة تكون متعينة حينئذ للجميع، كذلك تتعين البسملة للكل لو وصل آخر الناس بأول الفاتحة.
هذا وبعض أهل الأداء اختار الفصل بالبسملة بين المدثر والقيامة، وبين الانفطار والتطفيف وبين الفجر والبلد، وبين العصر والهمزة لمن روي عنه السكت في غيرها. وهم ورش والبصريان والشامي. واختار السكت بين ما ذكر لمن روي عنه الوصل في غيرها وهم المذكورون وخلف وحمزة. وذهبت طائفة إلى إبقاء الساكت على أصله واختيار السكت فيهن للواصل في غيرهن، وعدم جواز وصل البسملة بأول السورة بالنسبة للمبسمل. والذي ذهب إليه المحققون من العلماء عدم التفرقة بين هذه السور وبين غيرها، وهو الصحيح المختار الذي عليه العمل. وعلى التفرقة يكون لهذه السور مع غيرها حالتان: الأولى لو قرأت من آخر المزمل إلى أول القيامة فالمبسمل بين كل سورتين على حاله بأوجه البسملة الثلاثة، والساكت بين المزمل والمدثر له بين المدثر والقيامة السكت والبسملة بأوجهها الثلاثة، والواصل بين المزمل والمدثر له بين المدثر والقيامة الوصل والسكت فتكون الأوجه تسعة. الحالة الثانية لو قرأت من آخر المدثر إلى أول الإنسان فالمبسمل بين المدثر والقيامة له بين القيامة والإنسان البسملة بأوجهها الثلاثة، وفي الاختيار يزيد السكت بلا بسملة على كل وجه منها بين القيامة والإنسان، والساكت بين المدثر والقيامة له بين القيامة والإنسان السكت والوصل. والواصل بين المدثر والقيامة له بين القيامة والإنسان الوصل فقط فتكون الأوجه تسعة أيضا.
(فائدة) يجوز لكل من فصل بين السورتين بالبسملة ثلاثة أوجه:
الأول: الوقف على آخر السورة وعلى البسملة.
الثاني: الوقف على آخر السورة ووصل البسملة بأول التالية.
الثالث: وصل آخر السورة بالبسملة مع وصل البسملة بأول التالية. أما الوجه الرابع: وهو وصل آخر السورة بالبسملة مع الوقف عليها فهو ممتنع للجميع. وعلى هذا يكون لقالون ومن معه هذه الأوجه الثلاثة بين كل سورتين ويكون لورش والبصريين والشامي بين كل سورتين خمسة أوجه: ثلاثة البسملة والسكت والوصل، أما خلف وحمزة فليس لهما بين السورتين إلا وجه واحد وهو الوصل.
(تتمة) لكل من القراء العشرة حتى حمزة وخلف بين الأنفال والتوبة ثلاثة أوجه:
الأول: الوقف وقد يعبر عنه بالقطع، وهو الوقف على آخر الأنفال مع التنفس.
الثاني: السكت وهو الوقف على آخر الأنفال من غير تنفس.
الثالث: وصل آخر الأنفال بأول التوبة، وكلها من غير بسملة، وهذه الأوجه الثلاثة جائزة بين التوبة وبين أي سورة بشرط أن تكون هذه السورة قبل التوبة في التلاوة فلو وصلت آخر الأنعام مثلا بأول التوبة جازت هذه الأوجه الثلاثة لجميع القراء.
أما إذا كانت هذه السورة بعد التوبة في التلاوة كأن وصلت آخر سورة النور بأول التوبة فلم أجد من أئمة القراءة من نص على الحكم في هذا.
ويظهر لي - والله أعلم - أنه يتعين الوقف حينئذ ويمتنع السكت والوصل، والله تعالى أعلم. كذلك يتعين الوقف ويمتنع السكت والوصل إذا وصلت آخر التوبة بأولها.
البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة لعبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي جزء 1 صفحة 13
قال الإمام الشنقيطي:
" اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من أول كل سورة، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقاً. أما قوله في سورة النمل " انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم" فهي آية من القرآن اجماعاً.
وأما سورة براءة فليست البسملة آية منها اجماعاً، واختلف فيما سوى هذا، فذكر بعض أهلا الاصول أن البسملة ليست من القرآن وقال قوم هي منه في الفاتحة فقط، وقيل هي آية من أول كل سورة وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: ومن أحسن ما قيل في ذلك، الجمع بين الأقوال، بأن البسملة في بعض القراءات كقراءة ابن كثير آية من القرآن وفي بعض القرآن ليست آية، ولا غرابة في هذا فقوله في سورة الحديد " فان الله هو الغني الحميد" لفظة (هو) من القرآن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وليست من القرآن، في قراءة نافع وابن عامر لأنهما قرءا " فان الله الغني الحميد" وبعض المصاحف فيه لفظة (هو) وبعضها ليست فيه وقوله " فأينما تولوا فثم وجه الله فان الله واسع عليم". " وقالوا اتخذ الله ولداً" الآية فالواو من قوله (وقالوا) في هذه الآية من القرآن، على قراءة السبعة غير ابن عامر، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن لأنه قرأ " قالوا اتخذ الله ولداً" بغير واو وهي محذوفة في مصحف أهل الشام، وقس على هذا وبه تعرف أنه لا اشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض، وبذلك تتفق أقوال العلماء "
مذكرة في اصول الفقه – محمد المختار بن محمد الامين الشنقيطي – ص 66
فخلاصة الكلام:
أن البسملة في بعض القراءات ثابتة، وفي بعضها غير ثابتة، وهذا الخلاف لا يترتب عليه اي طعن في القران الكريم، وذلك لان المصاحف التي كتبها الصحابة الكرام في عهد عثمان رضي الله عنها وبعثوا بها الى الامصار قد وضعوا فيها ما اخذوه من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام أن هذا القران انزل على سبعة أحرف.
قال ابو عبيد:
" قَدْ تَوَاتَرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ "
فضائل القرآن – ابو عبيد القاسم بن سلام - ص 339
وهذا من رحمة الله تعالى على الامة، والتيسير لها، والامة مأمورة أن تقرأ القران بإي حرف من هذه الحروف كما قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: " أن هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»
"صحيح البخاري - بَابُ أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ - ج 6 ص 184، وصحيح مسلم - بَابُ بَيَانِ أن الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَبَيَانِ مَعْنَاهُ – ج 1 ص 560
وقد نقلت هذا الحديث وشرحته في نفس الكتاب تحت عنوان (إن هذا القران إنزل على سبعة أحرف)
فكتابة القران الكريم لا تخرج من أن تكون من هذه الاحرف، ولو اختاروا حرفا واحدا وكان فيه وجهان فان هذا معتبر عند اهل القراءات.
قال الإمام ابن الجزري:
"ونعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتاً في بعضها دون بعض كقراءة ابن عامر ﴿قالوا اتخذ الله ولداً﴾ في البقرة بغير واو ﴿وبالزبر وبالكتاب المنير﴾ بزيادة الباء في الاسمين ونحو ذلك فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي وكقراءة ابن كثير ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة من فإن ذلك ثابت في المصحف المكى وكذلك ﴿فإن الله هو الغني الحميد﴾ في سورة الحديد بحذف هو وكذا ﴿سارعوا﴾ بحذف الواو وكذا ﴿منها منقلباً﴾ بالتثنية في الكهف إلى غير ذلك من مواضع كثيرة في القرآن اختلفت المصاحف فيها فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم فلو لم يكن ذلك كذلك في شيء من المصاحف العثمانية لكانت القراءة بذلك شاذة لمخالفتها الرسم المجمع عليه "
النشر في القراءات العشر - ابو محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري– ج 1 ص 21
وقال الإمام السيوطي:
" الْبَسْمَلَةُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ مَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِمَ يَعُدَّهَا "
الاتقان في علوم القران – عبد الرحمن بن ابي بكر السيوطي – ج 1 ص 239
ولقد ورد في كتب الرافضة أن البسملة لا تكون بين سورة الضحى، والانشراح، وبين سورة الفيل وسوة قريش.
قال الحلي، وغيره من علماء الإمامية:
"روى أصحابنا أن "الضحى" و "ألم نشرح" سورة واحدة، وكذا "الفيل" و"الإيلاف"، فلا يجوز إفراد أحدهما عن صاحبتها في كل ركعة. ولا يفتقر إلى البسملة بينهما، على الأظهر"
شرائع الإسلام - جعفر بن الحسن بن يحيى الحلي - ج 1 ص 66، ومسالك الأفهام - الشهيد الثاني - ج 1 ص 211، ومدارك الأحكام - محمد العاملي - ج 3 ص 377
فلو كانت البسملة اية في سورة من القران لما ردها الرافضة بين هذه السور التي ذكرناها، ومن المعلوم أن رسم القران فيه البسملة في بداية سورة الضحى، والانشراح، والفيل، وقريش .
ولقد صرح الصدوق بان الضحى، والانشراح سورة واحدة، ولايلاف، والم نشرح سورة واحدة.
حيث قال: " وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ولايلاف وألم تر كيف سورة واحدة " الاعتقادات – للصدوق – 84
وفي الجامع الشرائع:
"الضحى والإنشراح سورة، والفيل ولإيلاف سورة: ولا بسملة بينهما وقيل البسملة كما في المصاحف "
الجامع للشرائع – يحيى بن سعيد الحلي – ص 81
لقد جزم بعدم البسملة، ثم ذكر بصيغة التمريض البسملة بينهما، فلو كان الامر فيه طعن في القران لما جزم بعدم البسملة بينهما .
وورد في كتب الرافضة أن الجهر بالبسملة غير مشمولة بالتقية، ومع هذا يأمر المعصوم بعدم الجهر بها ويحملها الإمامية على التقية.
قال محمد تقي المجلسي:
"وقال ابن أبي عقيل: تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام أن لا تقية في الجهر بالبسملة و روى الصدوق بإسناده المعتبر عن الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سنة وروي في الصحيح، عن عبيد الله بن علي الحلبي، و محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام أنهما سألاه عمن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين يريد يقرأ فاتحة الكتاب قال: نعم أن شاء سرا و أن شاء جهرا فقالا: أ فيقرأها مع السورة الأخرى فقال: لا و حملا على عدم الوجوب أو التقية كما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان بن يحيى، عن أبي جرير زكريا بن إدريس قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يصلي بقوم يكرهون أن يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فقال: لا يجهر كما حمل الأخبار الصحيحة الدالة على جواز تركها مطلقا على التقية كصحيحة محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون إماما فيستفتح بالحمد و لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: لا يضره و لا بأس بذلك و أن أمكن حملها على النسيان أيضا"
روضة المتقين – محمد تقي المجلسي - ج 2 ص 303
لقد قال الإمام المعصوم بعدم قراءة البسملة بين السورتين فلو كانت اية من كل سورة لأمر بقراتها في السورة الثانية.