الدليل على بطلان دلالة هذه الآية على (أصل الإمامة) هو عدم امتلاكها لشرط الدليل الأصولي ألا وهو الإحكام والقطع، أو الوضوح والصراحة في الدلالة على المراد.
فالآية متشابهة -هذا في أحسن أحوالها- وليست نصاً في (الإمامة) عموماً، ولا في (إمامة) علي -أو غيره- خصوصاً.
والاستدلال بها على هذه المسألة ظن واحتمال، وتخرص واستنتاج أو استنباط. وهذا كله لا يصلح في باب الأصول. والقول به اتباع للمتشابه، وقد نهينا عنه بنص قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ (آل عمران/7).
والإمامية يقولون: أن إمامة علي كنبوة محمد صلى الله عليه وسلم! بل كألوهية الله!! من أنكرها كان كمن أنكر معرفة الله ومعرفة رسوله.
إن هذا يحتاج إلى نص قراني صريح كصراحة قوله تعالى: ﴿محمد رسول الله﴾ (الفتح/29) في النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلا بطل الادعاء، وذلك غير موجود. وهذه الآية: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا…﴾ ليست كذلك. فالاستدلال بها باطل.
هذا هو الرد الشافي والجواب الكافي على الاستدلال بهذه الآية على (أصل الإمامة). ولكن من باب الاستطراد، وزيادةً في الفائدة نقول:
سياق الآية
وردت هذه الآية ضمن حشد من الآيات موضوعها الأساس هو النهي عن موالاة الكافرين والأمر بموالاة المؤمنين.
تبدأ هذا الآيات بالنهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وتتوسط بحصر الموالاة بالفئة المؤمنة، وتنتهي- كما بدأت- بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى والكفار: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أن اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ أن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة/51-57).
تذكر هذه الآيات نوعين من الموالاة: إحداهما منهي عنها والأخرى مأمور بها، والمعنى اللغوي في كلتيهما واحد (أي لا توالوا الكفار ووالوا المؤمنين).
والمعنى في (والوا) المنهي عنه، هو المعنى نفسه في (والوا) المأمور به، لكن لما كان الأول للكفار نُهي عنه، والثاني للمؤمنين أُمر به.
فالأمر والنهي ليس لتغاير المعنى، وإنما لتغاير الجهة، وإلا فإن الموالاة واحدة: فإن كانت في جهة الكفار نهي عنها، وإن كانت في جهة المؤمنين أمر بها.
ولو كان للولاية معنى آخر أخص من معنى التناصر والتحالف -كأن يكون (الإمامة) أو الخلافة- لما اختص النهي باليهود والنصارى فقط، لأن (الإمامة) -حسب العقيدة الامامية- منفية أيضاً عن المؤمنين سوى علي، فيتعدى نفيها إلى عموم المؤمنين أيضا. ولجاء التعبير محصورا بشخص واحد هو علي عليهم السلام حتى يكون الكلام واضحا مبينا لا لبس فيه.
وبتعبير آخر لو كان الولي معناه الإمام لقال الله: (لا تتخذوا اليهود والنصارى ولا تتخذوا المؤمنين سوى علي أولياء)
أو يقال: (لا تتخذوا المؤمنين سوى علي أولياء) دون ذكر اليهود والنصارى لأن ذلك مرفوض من باب أولى.
(إن سياق الآيات يفند ما زعموه تفنيدا قاطعا: لأن هذه الآية وردت ضمن آيات سابقة وتالية تتحدث عن قضية كبيرة وهي قضية الحكم بما انزل الله تعالى ونبذ حكم الجاهلية ولا يتم ذلك إلا بتكوين الأمة المؤمنة لا توالي أعداء الله ولا تتحالف معهم ولا تنصرهم على إخوانهم.
ولا تتكون هذه الأمة إلا إذا نصرت الله تعالى ورسوله والمؤمنين الذين لا يكتفون بالإقرار اللساني، وإنما يلتزمون بشرع الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والخضوع لله تعالى. وإذا تم كل ذلك على الوجه الأكمل فحينئذ ينصرهم الله تعالى على أعدائهم لأنهم عباده المؤمنون وحزبه المخلصون. ثم يستمر في تحديد طريق الصراع ومواجهة الأعداء في الآيات التالية، لتكوين جبهة إيمانية واحدة تتميز عن جبهة الكفر والنفاق)[1].
إن العاقل إذا تكلم كان كلامه مسوقا لتحقيق غرض وموضوع واحد. فإذا تخلل كلامه موضوع أو معنى لا علاقة له به. فهذا لا يكون إلا عند المجانين الذين يتكلمون بلا رابط.
ويستطيع أي قارئ للآيات السابقة في موضعها من القرآن أن يدرك أنه لا علاقة لمعنى (الإمامة) بالغرض الذي سيقت من أجله تلك الآيات بتاتاً. ولا يمكن أن نفسر الآية بـ(الإمامة) إلا إذا أقررنا أنه لا علاقة لها بسياق الآيات. وأنه يمكن فصلها عنها وإخراجها من مكانها الذي هي فيه. وجعلها في موضع آخر بلا فرق. وهو أمر واضح البطلان.
فإما أن تكون الآية متناسبة في معناها مع بقية الآيات فهي إذن في ولاية النصرة والتحالف والمحبة. وإما أن لا يكون هذا موضعها ولا علاقة لها به. وهذا باطل، بل كفر. لكنه لا يستقيم تفسير الآية بـ (الإمامة) إلا به! ولك الخيار بعد!
سبب النزول
ومما يوضح ذلك أكثر معرفة سبب النزول.
روى ابن جرير الطبري، والبيهقي. وكذلك ابن إسحاق في السيرة -وهو شيعي ومن تلاميذ محمد بن علي بن الحسين - عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أُبي وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم. وقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم. وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم.
ففيه وفي عبد الله بن أُبي نزلت الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ -إلى قوله- وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ﴾. فالآيات نزلت فيمن تولى الله ورسوله والمؤمنين وتبرأ من حلف الكافرين، وهو عبادة بن الصامت عليهم السلام. فهي تأمرنا بأن نتخذ الله ورسوله والمؤمنين أولياء كما فعل عبادة بن الصامت، وتنهانا عن اتخاذ اليهود وإضرابهم أولياء كما فعل ابن سلول.
ولا شك أن الولاية هنا لا علاقة لها بـ(الإمامة) أو الخلافة لأنها لم تكن موضع اختلاف فعبادة لم يكن متخذاً اليهود (أئمة) أو خلفاء، وإنما كان حليفاً لهم ونصيرا. فهذا الحلف هو الولاية التي نهى الله أن تتخذ من دون المؤمنين –كما هو شأن المنافق
عبد الله بن أُبَي بن سلول الذي تولى اليهود دون المؤمنين- أي حالفهم وناصرهم.
وهذا كقوله تعالى:
﴿لاَ تَجدُ قَوْمًاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (المجادلة/22).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أن اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمان وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة/23). وليس معنى ذلك: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم (أئمة).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (الممتحنة/1).
﴿المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ (التوبة/17). وليس معناه: المؤمنون والمؤمنات بعضهم (أئمة) وخلفاء بعض، وإلا صار عددهم بلا حصر، سيما وأن المؤمنات لا يصلحن لـ(الإمامة).
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ﴾ (فصلت/30-31).
﴿لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾
(آل عمران/28).
وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ بالضبط. فالآية الأولى تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. والثانية تأمر باتخاذ المؤمنين أولياء دون الكافرين. والمعنى واحد تماما. وليس معنى (المؤمنين) هنا أشخاصاً معينين بأسمائهم. ولا معنى (أولياء) هو (أئمة) أو خلفاء.
ولو كان معنى (وليكم) هو (إمامكم) لصح أن يوصف الله تعالى بـ(الإمامة) لأن الآية تقول: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾. فهل يصح أن يقال: الإمام الله؟! أو الله الـ(إمام)؟!
عشرات الآيات
ولقد جاء لفظ (الولي) في عشرات من الآيات لا علاقة له فيها بـ(الإمامة) أو الخلافة، منها: قوله تعالى عن زكريا عليه السلام : ﴿فهب لي من لدنك وليا﴾ مريم/5
﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ البقرة/282
﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومـا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ الإسراء/33
وقوله عن الرهط الذين بيتوا قتل النبي صالح عليه السلام : ﴿لَنُبَيتَنهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾ النمل/49 وليس معنى (وليه) (إمامه) قطعاً لأن صالح عليه السلام نبي فهو الإمام بكل الاعتبارات.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً﴾ النساء/45
﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً﴾ الكهف/17
﴿وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبيناً﴾ النساء/119
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ﴾ الإسراء/111
﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ البقرة/257
فما الذي جعل (وليكم) في الآية (إمامكم) دون بقية الآيات. وهي بالعشرات؟!
[1] نظرات في تفسير آيات من القرآن الكريم ص105 / د. محسن عبد الحميد.