تمهيد:
تعد مسألة الخُمس من أبرز الأحكام المالية التي دار حولها الجدل الفقهي في الفكر الشيعي الاثني عشري، وخصوصًا في مرحلة غيبة الإمام الثاني عشر، حيث اختلفت الرؤى حول كيفية التعامل مع سهم "الإمام الغائب"، وتطورت الأحكام تدريجيًّا من القول بالإباحة إلى القول بالوجوب، ثم بصلاحية الفقهاء في التصرف، وصولًا إلى القول بالتخيير.
وقد استعرض المفكر الشيعي أحمد الكاتب هذه التحولات من خلال تتبعها التاريخي والفقهي في عدة مصادر، كاشفًا عن طبيعة التطور البطيء والمتدرج الذي مرّت به هذه النظرية.
أولًا: مرحلة الإباحة ثم الانتقال إلى الوجوب دون مصرف
في بداية الأمر، كانت النظرية السائدة عند الشيعة تقول إن الخُمس حق خالص للإمام المعصوم، وبالتالي ففي زمن الغيبة يكون مباحًا للشيعة، إذ لا يوجد من يُسلَّم إليه.
غير أن هذه الرؤية تغيرت تدريجيًّا، إذ بدأت تظهر فتاوى تقول بوجوب الخمس حتى في عصر الغيبة، ولكن من دون تحديد جهة مصرفه، بل يُحتفظ به أو يُدفن أو يُوصى به إلى شخص موثوق بعد الموت حتى يُسلم إلى الإمام المهدي عند ظهوره.
ثانيًا: الإيداع عند أمين من عامة المؤمنين
في الخطوة التالية، قيل إنه لا مانع من إيداع الخمس عند أمين من إخوانه المؤمنين ليحتفظ به إلى أن يظهر الإمام. ولم يُشترط أن يكون الأمين فقيهًا أو من أهل العلم، بل يكفي أن يكون موثوقًا.
ثالثًا: الإيداع عند فقيه – على سبيل الاستحباب
ثم بدأ تطور آخر، فانتقل الأمر إلى القول بأن الأولى أن يُودع الخُمس عند أحد فقهاء المذهب، بشرط أن يكون أمينًا، لكن ذلك لا يُعد ملزمًا، بل مجرد استحباب.
وهنا يُلاحظ أن دور الفقيه لا يتعدى كونه أمينًا على المال، أي أنه لا يحق له التصرف فيه، بل يُحتفظ به حتى ظهور الإمام. أما نصيب الأصناف الثلاثة (اليتامى، المساكين، أبناء السبيل) فيمكن للفقيه أن يقسمه بينهم، خاصة إذا كان المالك لا يحسن القسمة.
رابعًا: الوجوب في الإيداع عند الفقيه
جاءت الخطوة الرابعة لتُحدث تحوّلًا كبيرًا؛ فقد أصبح إيداع الخُمس عند الفقيه أمرًا واجبًا لا مجرد مستحب.
ويُعد القاضي ابن براج (ت. منتصف القرن الخامس الهجري) أول من صرح بذلك، حيث قال بضرورة إيداع سهم الإمام عند فقيه موثوق، مع التوصية له بدفع المال إلى الإمام إن أدرك ظهوره، أو إلى غيره إذا لم يُدركه.
ويشير الكاتب إلى أن ابن براج أضاف شرط الفقاهة، بخلاف العلماء السابقين الذين اكتفوا بشرط الأمانة فقط، دون أن يذكر مستندًا شرعيًّا لهذا الشرط الجديد، ما يدل على اجتهادٍ محدث.
خامسًا: جواز أو وجوب دفع الخُمس للفقهاء لتقسيمه
في القرن السادس الهجري، مالت بعض الآراء إلى القول بجواز بل وجوب دفع الخُمس للفقهاء كي يتولوا هم عملية قسمته. ويُعد ابن حمزة الطوسي في كتابه الوسيلة إلى نيل الفضيلة من أوائل القائلين بذلك، معتبرًا أن الفقيه أولى بالقسمة من المالك خاصة إن لم يكن يحسن ذلك.
لكن هذه الفتوى لم تترسخ فورًا، بل بقيت موضع تردد في الأوساط الشيعية، حيث أبدى الشهيد الأول (القرن الثامن الهجري) ترددًا في تبنيها، وقال بـ التخيير بين الرأي القديم (الدفن والإيصاء)، والرأي الجديد (الصرف المباشر).
سادسًا: التخيير في زمن الدولة الصفوية
حتى في عهد الدولة الصفوية، التي تبنت المذهب الشيعي رسميًا، لم يكن الرأي القائل بوجوب صرف سهم الإمام إلى الفقيه مستقرًّا تمامًا؛ إذ ظل المحقق الكركي (أحد علماء الصفويين البارزين) على الرأي القائل بالتخيير بين الصرف أو الحفظ.
سابعًا: التردد الفقهي واستمرار الجدل حتى العصر الحديث
ظلّت آراء الفقهاء حول مسألة التصرف في سهم الإمام متضاربة حتى القرن الرابع عشر الهجري، كما في فتوى السيد محسن الحكيم، الذي استشكل في جواز التصرف ثم استثنى حالة إحراز رضا الإمام الغائب بصرفه في جهة ما، دون أن يوجب الرجوع إلى الفقيه.
فبحسب هذه الفتوى، يستطيع المكلّف إذا ظن رضا الإمام أن يتصرف بالخُمس مباشرة من غير إذن الفقيه، وهو ما يكشف عن عدم رسوخ مفهوم المرجعية المالية المطلقة للفقهاء، حتى في العصر المتأخر.