تُعَدّ آية ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى/23) من أكثر الآيات التي شغلت الجدل العقدي بين أهل السنة والشيعة، إذ جعلها الإمامية ركناً من أركان استدلالهم على إمامة علي وذريته، رغم افتقار النص لأي دلالة صريحة أو محكمة تقود إلى هذا المعنى. وفي هذا المقال نعرض دراسة نقدية محكمة، لغوية وشرعية وسياقية، تُبيّن أن الآية لا تتعلق بالإمامة أصلاً، وأن الاستدلال بها لا ينهض لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، وأن حملها على الإمامة لا يتم إلا بعد تجاوز سلسلة من العوائق اللغوية والشرعية والعقلية التي يستحيل اجتيازها. كما نكشف زيف الروايات الموضوعة التي حُمِّل بها النص، ونفحص المعنى الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين والسلف، لنصل إلى أن الآية لا علاقة لها البتة بموضوع الإمامة، وأنها من المتشابه الذي لا يُبنى عليه أصل عقدي.
ونحن نسأل: أين الدليل؟
في أي مقطع أو كلمة من النص! أن هذا النص غايته أن يكون متشابها. والاستدلال بالمتشابه لا يصلح في الأصول.دون النص المحكم الصريح الذي ينص على المراد. وما احتجوا به ليس صريحاً في الدلالة على (الإمامة). فبطل الاحتجاج به عليها.
ومن باب الزيادة والاستطراد نقول:
إن هذه الآية لا يصلح الاحتجاج بها على موضوع (الإمامة) إلا بعد اجتياز أربعة عوائق مستحيلة الاجتياز ألا وهي:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل على دعوته أجراً.
2- وهذا الأجر هو المودة. أي (الإمامة).
3- والمودة في القربى. أي الأقارب.
4- والأقارب هم علي وحده. أو هو وفاطمة والحسن والحسين.
وهذا كله غير ممكن للأسباب الآتية:
1. أن الآية من الأساس لا علاقة لها بالأشخاص
لأن (القربى) لغةً معنى ذهني هو القرب في النسب وليس ذاتاً أو شخصاً. مثله كمثل الشجاعة والعلم. فإذا أريد التعبير بهذه الألفاظ عن الذوات، فإما أن يضاف إليها كلمة (ذي أو ذوي) فيقال: ذو قربى وذو شجاعة وذو علم. وإما أن يتغير بناؤها الصرفي، فيقال: قريب أو أقارب، وشجاع وعالم. وإلا بقيت معان ذهنية لا علاقة لها بالتعبير عن الأشخاص أو الذوات.
جاء (في مختار الصحاح) للرازي:
(القرابة) و(القربى): القرب في الرحم وهو في الأصل مصدر تقول: بينهما (قرابة) و(قرب) و(قربى) و(مقربة).. وهو قريبي وذو (قرابتي) وهم (أقربائي) و(أقاربي).
والعامة تقول: هو قرابتي وهم قراباتي أ.هـ.
إذن لو أراد الله أحداً بهذه اللفظة لقال: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي ذوي الْقُرْبَى) كما جاء ذلك في مواضع عديدة من القرآن كقوله تعالى:
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبَى﴾ (البقرة/83). ولم يقل: (والقربى).
﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى﴾ (البقرة/177). ولم يقل: القربى.
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ (الإسراء/26). ولم يقل: (القربى).
وقد تضاف هذه الكلمة (القربى) إلى (أولوا)، بدل (ذوي) و(ذي). كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ (النساء/8). ولم يقل: (القربى).
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى﴾ (التوبة/ 113). ولم يقل: (قربى).
فلو أراد الله تعالى أقارب النبي صلى الله عليه وسلم لقال: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في ذوي القربى). لكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: (إلا المودة في القربى). فبطل الاحتجاج بالآية لبطلان أساسها وسندها اللغوي، ولا بناء بلا أساس.
2. لو افترضنا جدلاً أن (القربى) تعني الأقارب فما الذي يجعلنا نقطع بحمل المعنى على علي وحده وأقارب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرون!
3. إن (المودة) لا تعني (الإمامة) في أي حال من الأحوال لا لغة ولا اصطلاحاً.
يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (النساء/73).
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ (المائدة/82).
﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (العنكبوت/25).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أن خَلقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم/21).
ولا علاقة بين (المودة) في هذه الآيات وغيرها وبين (الإمامة). فلا معنى للاحتجاج بالآية عليها!
إن آي القرآن كلام. والكلام له قواعد لا يصح إلا بها، وأولها أن يكون المعنى المقصود مما يصح تفسير الكلام أو اللفظ به لغة.
والاحتجاج بهذه الآية على المطلوب الذي هو (الإمامة) مبني على قاعدتين هما:
أ- أن (القربى) تعني الأقارب لغة. وهذه القاعدة تبين انهيارها.
ب- أن (المودة) تعني (الإمامة). وهذه منهارة من الأساس.
وكل بناء منهار القواعد، فهو منهار لا يمكن أن يقوم. كما قال تعالى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ (النحل/26).
هذا كله فيما إذا كانت المسألة فروعية!
أما إذا كانت أصولية (كالإمامة) فالأمر أشد لأن القاعدة توجب (أن يكون المعنى المقصود مما لا يصح تفسير اللفظ إلا به) وليس (مما يصح تفسير اللفظ به) فقط.
وهذه يعني أن النقاش في المسالة لا يصلح من البداية.
4. أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل على دعوته أجراً وذلك أمر مقطوع به بنص الكتاب.
يقول تعالى: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أن هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف/104).
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أن أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ﴾ (سبأ/47).
﴿قُلْ مَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا منْ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص/86).
وإذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أحداً على دعوته أجراً إلا الله بطل الموضوع من الأساس لأنه مبني على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسألهم أجرا هو (إمامة) علي، وهذا مخالف لما ثبت قطعاً في القرآن من أنه لم يكن يسأل على دعوته أجراً. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن المطالبة بالأجر ثمناً لشيء لا يكون إلا بعد قبول المشتري شراء ذلك الشيء. وإلا لم يطالب بثمنه.
إن الآية خطاب موجه للكفار الرافضين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم أساساً. فما هو وجه المطالبة بأجر مقابل ثمناً لها؟ وهذا الأجر هو (إمامة) علي؟ وعلي يومئذ صبي صغير! فهل قبلوا النبوة أولاً؟ حتى يطالبوا بـ(الإمامة) ثانياً؟!
معنى الآية:
ولعل سائلاً يسأل عن معنى الآية؟ فنقول: أن معنى الآية هو: قل لا أسألكم على دعوتي أجراً أو مالاً. وإنما غاية ما أسألكم هو أن تودوني لقرابتي منكم. وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم، فتحفظوني وتحسنوا معاملتي ولا تؤذوني. فإن هذا لا ينبغي بين الأقارب وذوي الأرحام.
وهذا ليس أجراً على الدعوة. وإنما هو حق مشروع للقربى. لا قدح أو عيب في سؤاله، أو المطالبة به. لأن سؤال الحق حق.
إن مودة القربى وصلة الرحم واجبة على الأقارب وذوي الأرحام. وذلك ما لم تكن قريش ترعاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والاستثناء هنا منقطع غير متصل. وهو الذي لا يكون المستثنى داخلا ضمن المستثنى منه. كقوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَماً﴾ (مريم/62). والسلام (وهو المستثنى) لا يدخل ضمن اللغو (وهو المستثنى منه). ومعنى الآية: لا يسمعون فيها لغوا. لكن يسمعون سلاما.
وكذلك (المودة) لا تدخل ضمن الأجر.
ومعنى الآية: لا أسألكم عليه أجرا، لكن أسألكم المودة في القربى. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على دعوة أجراً.
وللآية معنى آخر دقيق مروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هو: لا أسألكم أجراً إلا أن تودوا الله تعالى، وأن تتقربوا إليه بطاعته.
فالمودة هنا: هي مودة الله جل وعلا. والقربى التقرب إليه بطاعته. ويؤيد هذا المعنى الدقيق قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان/57). فإن مودة الله والتقرب إليه هو معنى اتخاذ السبيل إليه تماما.