إن الدفاع عن صحابي جليل كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، هو دفاع عن عدالة الصحابة، وعن منطق الإنصاف الذي أمرنا الله تعالى به في قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10].
ونبدأ هذا الرد بأسلوب مميز: نفترض جدلاً أن كل ما قيل في معاوية من مثالب صحيح، وأن كل فضائله لا يصح منها شيء، ثم ننظر: هل يحق لنا شرعًا أو عقلًا أن نسبّه ونطعن فيه؟!
أولًا: معاوية في نظر الصحابة والتابعين
♦ روى البخاري في صحيحه (3765) أن ابن عباس قال عن معاوية: "إنه فقيه".
♦ وقال أبو الدرداء كما في حلية الأولياء (8/275): "ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا - يعني معاوية".
♦ وقال ابن عمر كما في تاريخ دمشق (59/173): "ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية".
♦ وقال ابن عباس كما في السنة للخلال (2/440): "ما رأيت رجلًا كان أخلق للملك من معاوية... ولم يكن بالضيق المتغضب".
♦ وقال عبد الله بن الزبير: "لا يبعدنَّ ابن هند إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبدًا" (تاريخ دمشق 59/185).
♦ وقال التابعي مجاهد بن جبر: "لو رأيتم معاوية لقلتم: هذا المهدي" (الشريعة للآجري 5/2465).
♦ وقال الإمام أحمد كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (8/1532): "ما لهم ولمعاوية؟! نسأل الله العافية".
تعليق مهم:
هذه الروايات كلها بأسانيد صحيحة، ومع ذلك لا نقف عندها في الرد، بل نفترض عدم صحتها ونبني الرد على هذا الفرض!
ثانيًا: معاوية يواجه الطعن بنفسه
روى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/208)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/168) بإسناد صحيح أن الصحابي المسور بن مخرمة واجه معاوية، وصرح له بكل ما يراه فيه من مثالب، فقال له معاوية: "لا أبرأ من ذنب! ولكن هل تعد لنا من الإصلاح ما يكافئ تلك السيئات؟ فإني أرجو الله كما ترجوه أنت!".
وفي نهاية الحوار، قال المسور: "فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر ما ذكر".
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/1422): "وهذا الخبر من أصح ما يُروى عن ابن شهاب".
ثالثًا: حتى لو أخطأ، أليس مسلمًا؟
الصحابة غير معصومين، وقد ثبت في صحيح مسلم (978) قصة الصحابي الذي قتل نفسه، ومع ذلك دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة. فهل يُعقل أن لا ندعو بالرحمة والرضوان لرجل صحب النبي، وجاهد في سبيل الله، وكان يكتب الوحي، وزوج أخته أم حبيبة للنبي، وهو خاله من الرضاعة؟!
الترضّي على الصحابة نوعان:
♦ ترضّي دعائي: لكل مؤمن ومسلم.
♦ ترضّي خبري: لمن ثبت بالنص دخوله الجنة كالعشرة.
وعليه، فترضينا عن معاوية يدخل ضمن الدعاء لا الإخبار، وهو مشروع شرعًا.
رابعًا: من كان الحسن بن علي خيرًا منه، فكيف سلّم له؟
في البخاري (2704): جمع الحسن بن علي جيوشًا لملاقاة معاوية، ثم تنازل له حقنًا لدماء المسلمين، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: "سيدًا، يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
فلو كان معاوية كافرًا أو منافقًا كما يزعم بعضهم، لكان هذا طعنًا في الحسن نفسه، وأنه سلّم أمر الأمة لرجل كافر، وهذا باطل.
خامسًا: معاوية في أقوال السلف والأئمة
♦ قال الإمام أحمد كما في "مسنده" (27410): "رحم الله معاوية".
♦ وقال عمر بن عبد العزيز: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأُدخل عليه معاوية وعلي، فخرج عليّ وهو يقول: قُضي لي، وخرج معاوية وهو يقول: غُفر لي".
♦ وقال أبو زرعة الرازي لرجل قال: أبغض معاوية، فقال له: "رب معاوية رحيم، وخصمه كريم، فما دخلك أنت؟!"
♦ وقال الإمام أحمد عن قتال معاوية لعلي: ﴿تلك أمة قد خلت﴾ [البقرة: 134].
سادسًا: لم يكذب معاوية على النبي
يدّعي البعض أن معاوية روى أحاديث كثيرة مكذوبة، وهذا باطل.
♦ أحاديثه في كتب السنة نحو ثلاثين حديثًا.
♦ لم يروِ حديثًا واحدًا في فضل عثمان أو ذم علي.
♦ بيَّن ابن الوزير اليماني في كتابه "الروض الباسم" (2/523-569) أن أحاديث معاوية كلها صحيحة، ووافقها أحاديث غيره.
سابعًا: علماء الحديث لم يجاملوا بني أمية
رووا الأحاديث التي فيها ذم لبني أمية:
♦حديث: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين..." (صحيح: السلسلة الصحيحة 744).
♦حديث: "أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية" (صحيح: السلسلة الصحيحة 1749).
♦حديث أسماء عن الحجاج (مسلم 2545).
♦ولم تُمنع هذه الأحاديث من الرواية، رغم أنها قيلت في عزّ الدولة الأموية.
♦رووا عن أهل البيت أكثر مما رووا عن غيرهم، كما في "مسند أحمد": روى عن علي بن أبي طالب 818 حديثًا.
الخاتمة:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10].
من كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، فليحب أصحابه، وليترحم عليهم جميعًا، ولا يفتح باب الطعن فيهم، فإنه بذلك يطعن في نقل الدين، والعدالة، والعقيدة.