مقدمة
تُعد الأحاديث النبوية الشريفة الركيزة الثانية للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وهي محل عناية فائقة من علماء الأمة عبر العصور، الذين بذلوا جهودًا مضنية في جمعها وتصنيفها وتمحيصها. ومع ذلك، لم تخلُ هذه الجهود من محاولات التشكيك والتأويل الخاطئ من قبل بعض الفرق الضالة أو أعداء الإسلام، الذين يسعون إلى إثارة الشبهات حول صحيح السنة النبوية، بهدف زعزعة ثقة المسلمين بدينهم. ومن بين هذه الشبهات التي أثيرت حول صحيح البخاري، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله، ما يتعلق بلفظة "بدا لله" الواردة في حديث الأعمى والأبرص والأقرع. لقد استغل أهل البدع هذه اللفظة لتمرير عقيدة البداء الباطلة، ونسبتها زورًا وبهتانًا إلى أهل السنة والجماعة، مع أن هذه العقيدة الكفرية لا وجود لها في عقيدة أهل السنة، بل هي عقيدة يهودية الأصل، وقد تبناها بعض الفرق الضالة كالشيعة الإمامية. يهدف هذا البحث إلى تفنيد هذه الشبهة، وتوضيح المعنى الصحيح للفظة "بدا لله" من خلال أقوال كبار علماء الحديث والفقه، مع إبراز الفرق الجوهري بين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة البداء الباطلة، وذلك لبيان الحق ودحض الباطل.
حديث الأعمى والأبرص والأقرع: موطن الشاهد ودلالة اللفظة
تُعد قصة الأعمى والأبرص والأقرع من القصص النبوية العظيمة التي تحمل في طياتها دروسًا وعبرًا جمة، وقد وردت في صحيح البخاري ومسلم. وموطن الشاهد في هذه القصة، والذي أثار الجدل والشبهات، هو لفظة "بدا لله" التي وردت في بعض روايات الحديث. لنستعرض أولاً نص الحديث الشريف، ثم ننتقل إلى تحليل اللفظة ومناقشة أقوال العلماء فيها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ...» [1] رواه البخاري (3464)، ومسلم (2964).
وقد روى البخاري القصة تعليقًا بدون لفظة: "بدا لله" في كتاب الأيمان والنذور، باب لا يقول ما شاء الله وشئت. وهل يقول أنا بالله ثم بك؟
لقد أثارت هذه اللفظة تساؤلات عديدة، وفسرها بعض أهل البدع على غير وجهها الصحيح، زاعمين أنها تدل على عقيدة البداء، وهي أن يظهر لله تعالى أمر لم يكن يعلمه من قبل، وهذا محال في حق الله تعالى. ولذلك، قام العلماء الأجلاء بتوضيح المعنى الصحيح لهذه اللفظة، وتفنيد الشبهات المثارة حولها.
ويمكن تلخيص أقوال العلماء في هذه اللفظة في أربعة أقوال رئيسية:
القول الأول: "بدا لله" أي سبق في علمه
يرى جمهور العلماء أن معنى لفظة "بدا لله" هو أن الأمر قد سبق في علم الله تعالى، وأنه أراد إظهاره وتحقيقه في الواقع. وهذا التأويل يتفق مع كمال علم الله تعالى، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وعلمه أزلي أبدي لا يطرأ عليه تغيير أو تبديل.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (6/579): «بِتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَة بِغَيْرِ هَمْز أَيْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه فَأَرَادَ إِظْهَاره، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى». [2]
ومقصود الحافظ ابن حجر بقوله: «وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى» هو نفي عقيدة البداء، التي هي عقيدة كفرية باطلة.
ولنا وقفة مع هذه العقيدة الكفرية:
عقيدة البداء: أصلها وتفنيدها
إن عقيدة البداء هي عقيدة يهودية الأصل، وقد ورد ذكرها في التوراة التي حرفها اليهود على وفق أهوائهم وشهواتهم. وتتلخص هذه العقيدة في أن الله تعالى قد يظهر له أمر لم يكن يعلمه من قبل، أو يغير رأيه في أمر ما، وهذا يتنافى تمامًا مع كمال علم الله تعالى وحكمته وقدرته. وقد أشاع هذه العقيدة عبد الله بن سبأ، وتبناها من بعده فرق السبئية، ثم أصبحت من أصول عقيدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
وممن فصل عقيدة البداء عند الرافضة الشيخ الدكتور ناصر القفاري في كتابه "أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية" (2/937-952)، حيث عقد فصلاً كاملاً لها، مبيناً زيفها وبطلانها.
أما أهل السنة والجماعة – ولله الحمد – فلا يعرفون عقيدة البداء، وليس لها ذكر في كتاب الله تعالى، ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فعقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على أن الله تعالى عالم بكل شيء، ما كان وما سيكون، ولا يطرأ على علمه أي تغيير أو تبديل.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282] [3].
وقال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59] [4].
مسألة: هل النسخ يستلزم البداء؟
تثار أحيانًا شبهة مفادها أن النسخ في الأحكام الشرعية يستلزم عقيدة البداء، وهذا فهم خاطئ تمامًا. فالنسخ هو رفع حكم شرعي بحكم شرعي آخر، وهو من كمال قدرة الله تعالى وحكمته، ولا يعني أبدًا أن الله تعالى قد بدا له أمر لم يكن يعلمه. فالله تعالى يعلم منذ الأزل أن هذا الحكم سينسخ في وقت معين، وأن الحكم الناسخ سيأتي ليحل محله.
أجاب الزركشي في "البحر المحيط" فقال: «وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّسْخُ الْبَدَاءَ إذْ النَّسْخُ بِأَمْرٍ، وَالْبَدَاءُ الظُّهُورُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ وَالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اسْتِلْزَامَهُ. فَلَزِمَهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، فَقَالَتْ الْيَهُودُ: لَا يَجُوزُ النَّسْخُ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ الْبَدَاءِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ: يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ مِنْهُ. وَالْكُلُّ كُفْرٌ. وَالثَّانِي أَغْلَظُ إذْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُكَفَّرُ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعَبُّدُ بِكُلِّ شَرْعٍ مُغَيَّا إلَى ظُهُورٍ آخَرَ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ». [5]
المصادر والمراجع:
[1] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا}، رقم الحديث 3464.
[2] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. (1379هـ). "فتح الباري شرح صحيح البخاري". (ج 6، ص 579). تحقيق: محب الدين الخطيب. بيروت: دار المعرفة.
[3] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 282.
[4] القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 59.
[5] الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر. (1414هـ). "البحر المحيط في أصول الفقه". (ج 4، ص 246). تحقيق: عبد القادر عبد الله العاني. القاهرة: دار الصفوة.