القول الثاني: لفظة "بدا لله" من تصرف بعض الرواة

يرى فريق من العلماء أن لفظة "بدا لله" قد تكون من تصرف بعض الرواة، وأن الرواية المحفوظة هي بلفظ "أراد الله". ويستدلون على ذلك بأن رواية مسلم جاءت بلفظ: «أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ».

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 579): «وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ هَمَّام بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظِ " أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ "، فَلَعَلَّ التَّغْيِير فِيهِ مِنْ الرُّوَاة». [2]

ولتوضيح ذلك، فإن لفظة "بدا لله" جاءت من طريق همام، ورواها عنه ثلاثة:

1- عمرو بن عاصم وعبد الله بن رجاء الغداني:"" فقد أخرجها البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3464) بلفظ واحد فيه لفظة "بدا لله أن يبتليهم".

2- "شيبان بن فروخ:" أخرجها مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم (2964) بلفظ "فأراد الله أن يبتليهم".

وبعد البحث والتدقيق، نجد أن البخاري ذكر الحديث معلقًا من رواية عمرو بن عاصم بلفظ "أراد الله"، فقد قال: «وقال عمرو بن عاصم، حدثنا همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله، حدثنا عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة في بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم..." الحديث».

أمر آخر؛ العقيلي في "الضعفاء" (4/369) أخرج الحديث من طريق عبد الله بن رجاء الغداني بلفظة: "بدا لله". فاتفق اثنان من تلاميذ همام، وهما عمرو بن عاصم وشيبان بن فروخ على رواية الحديث بلفظ "أراد الله" في مقابل عبد الله بن رجاء الذي رواه عن همام بلفظ: "بدا لله". والحديث مخرجه واحد، فلا بد من الترجيح كما هو طريقة المحدثين، فيكون الراجح لفظ "أراد الله" الذي اتفق عليها الاثنان. ويكون لفظ "بدا لله" من تصرف عبد الله بن رجاء.

وبعد الرجوع إلى ترجمته، نجد أن يحيى بن معين وعمرو بن علي اتهماه بكثرة التصحيف. قال يحيى بن معين: «كثير التصحيف». وقال عمرو بن علي: «صدوق، كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة».

فتعصيب الجناية عليه ربما يكون له وجه، فقد يكون صحف الكلمة. ولهذا أعل العلامة الألباني في "مختصر صحيح البخاري" (2/446) اللفظة بـ "عبد الله بن رجاء" فقال عند لفظة: "أراد الله": «قلت: وهي رواية مسلم، وهذا هو المحفوظ، وفي إسناد الأولى (عبد الله بن رجاء)، وهو الغداني، وفي حفظه كلام. قال الحافظ في "التقريب": "صدوق يهم قليلا". ونسبة البداء إلى الله لا يجوز. ومال الحافظ إلى أن الرواية الأولى من تغيير الرواة، وظني أنه من الغداني كما ألمحت إليه، والرواية المحفوظة لم يستحضرها الحافظ أنها عند المصنف، فعزاها لمسلم وحده». [6]

يقصد لفظة: "أراد الله".

القول الثالث: "بدا لله" أي "قضى الله"

ذهب بعض العلماء إلى أن معنى لفظة "بدا لله" هو "قضى الله"، أي أن الله تعالى قضى وقدر أن يبتليهم. وهذا التأويل يتفق مع معنى القضاء والقدر في الإسلام، وأن كل ما يحدث في الكون هو بمشيئة الله تعالى وقضائه.

قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" عند مادة "بدا": «وفي حديث الأقرع والأبرص والأعمى "بَدَا للّه عز وجَلَّ أن يَبْتَلِيَهم" أي قَضَى بذلك، وهو مَعْنى البَداء ها هنا، لأن القضاء سابق. والبَداءُ اسْتِصْواب شيء عُلم بعدَ أن لم يُعْلَم، وذلك على اللّه عز وجل غير جائز». [7]

وقد مال الحافظ ابن حجر إلى هذا الرأي فقال في "فتح الباري" (6/579): «وَأَوْلَى مَا يُحْمَل عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَاد قَضَى اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ، وَأَمَّا الْبَدْء الَّذِي يُرَاد بِهِ تَغَيُّر الْأَمْر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا...». [2]

القول الرابع: ضبط الكلمة بالهمز "بدأ لله"

يرى بعض العلماء أن ضبط الكلمة الصحيح هو بالهمز "بدأ لله"، أي "ابتدأ الله" أو "شرع الله". وهذا يعني أن الله تعالى ابتدأ ابتلاءهم، أو شرع في ذلك. وهذا التأويل يزيل أي شبهة تتعلق بمعنى البداء، حيث أن "بدأ" هنا تعني الابتداء والشروع في الأمر.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/579): «وَقَالَ صَاحِب "الْمَطَالِع": ضَبَطْنَاهُ عَلَى مُتْقِنِي شُيُوخنَا بِالْهَمْزِ أَيْ اِبْتَدَأَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ، قَالَ: وَرَوَاهُ كَثِير مِنْ الشُّيُوخ بِغَيْرِ هَمْز وَهُوَ خَطَأ اِنْتَهَى. وَسَبَقَ إِلَى التَّخْطِئَة أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ مُوَجَّه كَمَا تَرَى». [2]

ومال السندي إلى هذا القول أيضًا، كما نقل الأرنؤوط في "تخريج المسند" (32/424) عنه عند حديث أبي موسى الأشعري الآتي (رقم 3) فقال: «قال السندي: "قوله: فإذا بدا لله. هكذا في النسخ "بدا" من البدو، و"لله" جار ومجرور متعلق به، أي ظهر له تعالى. قيل: وهو خطأ، لأنه بمعنى ظهور شيء بعد أن لم يكن وهو محال في حقه تعالى، إلا أن يُأوَّل بمعنى أراده، والصواب بدأ لله، على أن بدأ، بالهمزة، و"الله" فاعله، أي: شرع الله». [8]

الترجيح بين الأقوال

بعد استعراض أقوال العلماء في تفسير لفظة "بدا لله"، يترجح – والعلم عند الله – أن اللفظة من تصرف بعض الرواة، وهو عبد الله بن رجاء الغداني، وأن الرواية المحفوظة هي بلفظ "أراد الله".

وهذا الترجيح مبني على عدة اعتبارات:

1- "موافقة رواية مسلم:" فرواية مسلم جاءت بلفظ "أراد الله أن يبتليهم"، وهي رواية صحيحة ومحفوظة.

2- "اتفاق تلاميذ همام:" اتفق اثنان من تلاميذ همام (عمرو بن عاصم وشيبان بن فروخ) على رواية الحديث بلفظ "أراد الله"، في مقابل عبد الله بن رجاء الذي رواه بلفظ "بدا لله". وعند اختلاف الرواة، يرجح قول الأكثر والأحفظ.

3- "كلام أهل العلم في عبد الله بن رجاء الغداني:" فقد اتهمه يحيى بن معين وعمرو بن علي بكثرة التصحيف والغلط، مما يضعف روايته التي انفرد بها.

4- "نفي عقيدة البداء:" إن ترجيح لفظ "أراد الله" يقطع الطريق أمام أي تأويل خاطئ للفظة، وينفي تمامًا عقيدة البداء الباطلة التي تتنافى مع كمال علم الله تعالى.

 وعلى فرض صحة لفظة "بدا لله"، فإن التأويلات الأخرى التي ذكرها العلماء، مثل "سبق في علمه" أو "قضى الله" أو "بدأ لله" (بالهمز)، كلها تأويلات صحيحة ومقبولة، وتزيل أي شبهة تتعلق باللفظة، وتؤكد على كمال علم الله تعالى وقدرته وحكمته. 

المصادر والمراجع

[6] الألباني، محمد ناصر الدين. (1422هـ). "مختصر صحيح البخاري". (ج 2، ص 446). الرياض: مكتبة المعارف.

[7] ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد. (1399هـ). "النهاية في غريب الحديث والأثر". (ج 1، ص 106). تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي. بيروت: المكتبة العلمية.

[8] الأرنؤوط، شعيب. (1421هـ). "تخريج المسند". (ج 32، ص 424). بيروت: مؤسسة الرسالة.