يُعَدّ موضوع التقية من أبرز المسائل العقدية التي تميّز المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري عن غيره من المذاهب الإسلامية، حيث تَحوّلت هذه العقيدة من مجرد رخصة استثنائية عند الخوف إلى أصلٍ ثابتٍ وركيزةٍ أساسية في الدين، حتى اعتبرها بعض علمائهم تسعة أعشار الدين. وفي هذا المقال نستعرض النصوص التي اعتمدها علماء الإمامية في تقرير هذا المبدأ، ونكشف عن مكانته في فكرهم العقدي والعملي، مع ربطها بأهم مصادرهم المعتمدة، وإبراز أثرها في تعاملهم مع المسلمين عبر التاريخ.
أعني بالرافضة:
طائفة الإثنى عشرية التي تلقب نفسها بـ: الجعفرية، والمؤمنين، والخاصة، والإمامية [1]، وهي اليوم أعظم الطوائف المنتسبة إلى التشيع مكراً، وأكثرها جمعاً، وأخطرها مسلكاً، وتعد الطائفة الكبرى في عصرنا، وإذا أطلق لقب الشيعة اليوم لا ينصرف إلا إليها في نظر جمع من الباحثين، وما سواها زيدية أو إسماعيلية، وهي تستوطن مناطق شتى، منها: إيران، والعراق، والخليج، والهند، وغيرها.
وهم يعترفون بأنهم المعنيون بلقب الرافضة، وحاولوا تزيين هذا اللقب لأتباعهم، فقد أورد شيخهم المجلسي في كتابه «البحار» (أحد مراجعهم في الحديث) أربعة أحاديث في مدح التسمية بالرافضة في باب سماه: «باب فضل الرافضة ومدح التسمية بها».
ومن أمثلة ما ذكره في هذا الباب قوله:
عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر - عليه السلام -: «جعلتُ فداك، اسمٌ سمِّينا به استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال: وما هو؟ قلت: الرافضة، فقال جعفر: إن سبعين رجلاً من عسكر موسى - عليهم السلام - فلم يكن في قوم موسى أشد اجتهاداً وأشد حباً لهارون منهم، فسماهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني نحلتهم، وذلك اسم قد نحلكموه الله»[2]، ففي هذا النص يقررون - وإن لم يكن له أصل تاريخي - أن اسم الرافضة كان من ألقاب اليهود ثم انتقل إليهم.
مقالات السقيفة ذات الصلة:
عقيدة التقية عند الشيعة: حقيقتها وخطرها
معتقد التقية بين الرافضة وبين أهل السنة والجماعة
هل الشيعة الاثنا عشرية حقًا أتباع للإمام عليّ؟
وقد ثبت أن هؤلاء المعاصرين، وبالتحديد من يتلقى دينه عما يسمونه صحاح الإمامية الثمانية، ليسوا رافضة فحسب بل هم من غلاة الرافضة لا في مقاييس أهل السنة فقط، بل في مقاييس الرافضة أنفسهم [3].
والمراجع لهذه المصادر يجد أنها دأبت على توجيه أتباعها إلى معاملة المخالفين لهم على أساس الخداع والمكر والنفاق.
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].
حقيقة التقية:
قال شيخهم المعاصر محمد جواد مغنية رئيس المحكمة الجعفرية ببيروت: «التقية أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد» [4]، فهو يتظاهر أمامك بقول أو فعل يخفي به عقيدته، ويتقنع بقناع يستر به نحلته، حتى لا تقف على حقيقة مذهبه، ولا تدرك خفايا معتقده، ويرى أن فعله هذا عبادة من العبادات لا يتأثم من فعلها ولا يستحيي من تمثيلها، بل هي في نظره تسعة أعشار الدين، بل هي الإيمان كله ولا إيمان لمن لم يفعل ذلك ولا دين له، بل هو إن لم يفعلها من الخارجين عن دينهم المفارقين لجماعتهم.
ولعل هذا اللون من الاعتقاد عند هذه الطائفة لا مثيل له بين المذاهب والمعتقدات في تاريخ البشرية؛ إذ إن المعروف أن الكذب وتظاهر المرء بخلاف حقيقته سبة وعار، وجبن وخور، ونفاق وكذب صراح، وغاية الأمر أنه يسوغ في حالة الخوف والإكراه من باب الاضطرار، أما أن يكون عادة جارية وخلقاً ثابتاً، بل عملاً شريفاً وديناً مفروضاً في حال الاختيار، فلا وجود لهذا المفهوم إلا في دين الرافضة ومعتقداتهم.
ومن أراد أن يعرف تقيتهم فليستمع إلى ما يقولون، ولير ما يصنعون، وليأخذ الحقيقة من أفواههم ليراها جلية واضحة منقولة من المعتمد من مصادرهم، فقد أجرى الله على ألسنتهم ما يكشف سترهم، ويهتك أستارهم، ويفضح أمرهم؛ لأنهم - كما يعترفون - مبتلون بـ«النَّزَق[5] وقلة الكتمان»[6]، فقد قالوا في شأن تقيتهم وبيان منزلتها ومكانتها في اعتقادهم، وذلك في كتابهم المعتمد لديهم الذي يسمونه «دين الإمامية»: «والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة»[7]، فترى أنهم يفرضون على أتباعهم استخدام التقية في تعاملهم ويحكمون على من تركها بالكفر والخروج عن دينهم، ولا يجعلون لاستمرار العمل بالتقية نهاية إلا إذا رجع مهديهم - الملقب عندهم بالقائم - من غيبته، ومهديهم لا وجود له إلا في خيالاتهم، فإذن تقيتهم لا تنتهي ما دام لهم وجود على هذه الأرض.
والدعوة في نصوصهم إلى العمل بالتقية تأخذ ألواناً من الترغيب، وأشكالاً من الترهيب، فمرة يصفونها بأنها أعظم فرائض الدين، فيقولون: «أعظم فرائض الله عليكم - بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائنا - استعمال التقية»[8]، وترك التقية عندهم كترك الصلاة: «تارك التقية كتارك الصلاة»[9]، وحيناً يصفونها بالذنب الذي لا يغفر: «يغفر الله للمؤمن كل ذنب، يظهر منه في الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الإخوان»[10]، ومرة ثالثة يحكمون على من تركها ولم يجعلها عادة له بأنه ليس منهم، فيقولون: «ليس منا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعية»[11]، ويقولون: «عليكم بالتقية؛ فإنه ليس منا من لم يجعل شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته مع من يحذره»[12].
وحيناً يحكمون على تاركها بأنه لا دين له ولا إيمان: «لا دين لمن لا تقية له»[13]، «لا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله عز وجل أعملكم بالتقية قبل خروج قائمنا، من تركها قبل خروج قائمنا فليس منا»[14].
وفي مجال الترغيب تتنوع الإغراءات، وتتعدد الوعود، فهي مرة أفضل عبادة لله: «ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخب» (يعني التقية)[15].
وهي طريقة المرسلين أجمعين: «عليك بالتقية؛ فإنها سنة إبراهيم وموسى وهارون»[16] وهي أحب شيء إلى أهل بيت رسول الله ولزومها سبب العزة والإعراض عنها سبب الهوان.
عن حبيب بن بشر قال: «قال لي أبو عبد الله: سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض أحب إليَّ من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله»[17]، «وتسعة أعشار الدين في التقية»[18]، و«لا خير فيمن لا تقية له»[19]، «ما من شيء أقر لعين أبيك من التقية»[20].
وإنما فضل الأنبياء - بحسب زعمهم - بالتقية:
«إن الأنبياء إنما فضلهم الله على خلقه بشدة مداراتهم لأعداء الله وحسن تقيتهم»[21].
والرافضي مدعو في ظل أحكام التقية الدائمة إلى مشاركة عموم المسلمين في صيامهم وصلاتهم وأعمالهم، مع البراءة منهم ومن أعمالهم في الباطن، قالوا: «وأما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإن الله نهى المؤمن أن يتخذ الكافر ولياً، ثم مَنَّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلي بصلاته ويعمل بعمله، ويظهر له استعمال ذلك موسعاً عليه فيه، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمة، فالله تعالى قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران:82] فهذه رخصة تفضل الله بها على عباده المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر»[22].
فهو مدعو لأن يصلي بصلاتهم والاقتداء بهم «من صلى خلف المنافقين [يعنون المسلمين] تقية كمن صلى خلف الأئمة»[23]، لاحظ أنهم يعنون بالكافر هنا المسلم، ولذلك قال: «أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلي بصلاته ويعمل بعمله»، ولا يصلي إلا المسلم، كما يعنون بالمؤمن من يدين بدينهم؛ لأن مصطلح المؤمن في مفهومهم لا ينصرف إلا إليهم، كحال اليهود الذين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:81].
وقد صورت بعض نصوصهم حقيقة مخالفة المسلمين، داعية كل أتباعهم للالتزام بها، بقولهم: «خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم»[24].
ويقولون: «خالطوهم بالبرانية[25]، وخالفوهم بالجوانية[26]، إذا كانت الإمرة صبيانية[27]»[28].
فهم يعيشون وسط المجتمع المسلم وفي ظل الحكومة الإسلامية ظواهرهم مع المسلمين، وقلوبهم وبواطنهم وعواطفهم وتآمرهم مع أعدائهم، فهم عين وعون ورِدْءٌ لأعداء المسلمين على المسلمين.
وربما باحوا بمرادهم بالرمز والإشارة أو باللغة والعبارة الباطنية، ولكن لأتباعهم ولمن يفهم خطابهم من شيعتهم، ونصوصهم في هذا الباب كثيرة وأقوال شيوخهم مستفيضة، حيث تجد في كتبهم المعتمدة أبواباً لهذه العقيدة لا تجدها في كتب المسلمين؛ ففي الكافي أهم مصدر لهم في الحديث والرواية باب بعنوان: «باب التقية» وفيه 23 حديثاً لهم[29]، وباب ثان بعنوان «باب الكتمان» ذكر فيه 16 حديثاً تأمر بكتمان الاعتقاد والمفاصلة الشعورية والعقدية للمسلمين، وباب ثالث بعنوان «باب الإذاعة» يتضمن 12 حديثاً تحذر من إذاعة أمرهم، وتأمر بكتمان دينهم، وتوجه أتباعهم إلى التعامل مع مخالفيهم وفق أحكام التقية.
وتسير على طريقة «الكافي» كتب الرواية الأخرى المعتمدة عند هذه الطائفة، ففي البحار - الذي قال عنه بعض شيوخهم المعاصرين: إنه المرجع الوحيد لتحقيق معارف المذهب - باب عنوانه «باب التقية والمداراة» ذكر فيه مائة وتسعة أحاديث تقرر هذا المذهب الخطير، بل وتفرضه وتوجه الأتباع إلى أساليب استعماله.
الملاحظ:
إن كتمانهم وتقيتهم تجري في الغالب مع المسلمين، وربما ترتفع مع الزنادقة الملحدين، وإذا قرأت ذلك الحوار الذي سجله أحد شيوخهم وادعى وقوعه بين أحد الزنادقة وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه - وأمير المؤمنين علي بريء من هذا الافتراء - أدركت أنهم ربما لا ينطلقون على سجيتهم ولا يصرحون بالحقيقة إلا في جو الإلحاد وكهوف الزنادقة[30]، ومن قبل قال أحد الدعاة الإسماعيليين: «لا تتكلم في بيت فيه سراج» يعني فقيهاً أو طالب علم[31].
وقرر شيخهم المفيد أن عصر الخلافة الراشدة هو عهد تقية، وأن حال الشيعة فيه كحال الرسول مع أهل الجاهلية[32]، فكيف يكون حالهم مع من جاء بعدهم من حكام المسلمين؟! بل نصوصهم التي تأمر بالتقية وتلزم بالكتمان ينسبونها - زوراً وافتراءً - لبعض أئمة أهل البيت الذين كانوا يعيشون في زمن القرون المفضلة وفي ظل الخلافة الإسلامية، أي أن القرون المفضلة عندهم هي فترة تقية، وتؤكد طائفة من وصاياهم وتقريرات شيوخهم أن تعامل عموم الشيعة مع الصفوة المختارة من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة يجب أن يتم وفق أصول التقية وأساليبها الخادعة.
فقد جاء في أجمع كتاب لهم في الأحكام وأحد مصادرهم الثمانية المعتمدة في الرواية وهو وسائل الشيعة باب بعنوان «باب وجوب عشرة العامة [أهل السنة] بالتقية»[33].
وكلما كان الرجل عندهم أقدر على الخداع والكذب وأبرع في التقية والمخادعة كلما ارتفع قدره لديهم[34]، ولذلك يشيد بعض شيوخهم المعاصرين بطريقة الحسين بن روح (المتوفى سنة 326هـ، وهو أحد زعمائهم السريين وأحد الأبواب الأربعة) في طريقة تعامله مع أهل السنة وفق طقوس التقية فيقول: «كان من مسلكه الالتزام بالتقية المضاعفة بنحو ملفت للنظر بإظهار الاعتقاد بمذهب أهل السنة»[35].
____________________________________________________
[1] انظر ألقابهم في: أصول مذهب الشيعة: 1/ 99 وما بعدها.
[2] البحار: 68/96-97، وانظر أيضاً: تفسير فرات: ص139، البرقي/ المحاسن: ص157، الأعلمي/ دائرة المعارف: 18/200.
[3] انظر: «شيعة اليوم ليسوا بشيعة» دراسة منشورة بمجلة البيان (عدد 339).
[4] «الشيعة في الميزان» ص48.
[5] نزِق نزقاً من باب تعب: خف وطاش (المصباح المنير: ص734).
[6] أصول الكافي: 2/221-222.
[7] الاعتقادات ص114-115.
[8] بحار الأنوار 57/49، تفسير الحسن العسكري 238.
[9] جامع الأخبار ص110، بحار الأنوار 72/412.
[10] تفسير الحسن العسكري ص130، وسائل الشيعة 11/474، بحار الأنوار 72/415.
[11] أمالي الطوسي 1/287، بحار الأنوار 72/395.
[12] أمالي الطوسي 1/287، بحار الأنوار 72/395.
[13] الخصال 1/14، بحار الأنوار 72/394.
[14] كمال الدين لابن بابويه 2/42، بحار الأنوار 72/396.
[15] معاني الأخبار 162، بحار الأنوار 72/396.
[16] انظر: معاني الأخبار 386، بحار الأنوار 72/396.
[17] المحاسن 256، بحار الأنوار 72/398.
[18] المحاسن 259، بحار الأنوار 72/407.
[19] علل الشرائع 1/48، بحار الأنوار 72/399.
[20] المحاسن 257، بحار الأنوار 72/398.
[21] بحار الأنوار 72/401.
[22] بحار الأنوار 72/390-391.
[23] بحار الأنوار 72/412.
[24] مجالس المفيد 85، بحار الأنوار 72/ 410.
[25] البرانية: العلانية (هامش الكافي 2/220).
[26] الجوانية: السر والباطن (المصدر السابق).
[27] معنى قولهم: «إذا كانت الإمرة صبيانية»: أنه إذا كان الحكم بيد غيرهم والإمارة ليست لشيعتهم، فيكتفون ببراءة القلب والتظاهر (بأقوالهم وأفعالهم) أمام الآخرين بخلاف ما يعتقدون.
[28] أصول الكافي 2/220.
[29] انظر: الكافي 2/ 217- 221.
[30] انظر: نص الحوار المزعوم في الاحتجاج لشيخهم الطبرسي 249-254، وينظر: فقرات منه مع التعليق عليه في: أصول مذهب الشيعة 1/250 وما بعدها.
[31] ينظر: مراتب الدعوة عند الإسماعيلية في كتب الفرق (الفرق بين الفرق ص298، فضائح الباطنية ص21).
[32] انظر: نص المفيد في الإرشاد ص12، وقد نقلته بنصه في «مسألة التقريب» (2/ 124).
[33] وسائل الشيعة 11/470.
[34] وقد شاع في أسمائهم لقب «تقي» من التقية لا من التقوى نسبة لبراعة صاحبه في التقية.
[35] محمد الصدر، تاريخ الغيبة الصغرى 411.