في قلب صراعات العصور الوسطى، بزغ نجم الدولة السلجوقية كقوة سنّية صاعدة، أعادت الهيبة للخلافة الخلافة العباسية وكبحت جماح الانقسامات المذهبية التي مزّقت العالم الإسلامي. لكنّ هذه الدولة الفتيّة لم تنعم بالاستقرار طويلًا؛ إذ واجهت خيانات داخلية دُبّرت في الخفاء، كان أبرزها من بعض العناصر الشيعية التي تحالفت مع أعداء الأمة في لحظات مفصلية من التاريخ الإسلامي.

خيانات الشيعة للدولة السلجوقية:

لما زالت دولة بني بويه (الشيعية) وخاب، جاء قوم آخرون من الأتراك السلاجقة الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم. والله المحمود أبدًا على طول المدى[1]، قاموا بنصرة السنة وإخماد الرفض وأهله، ولكن هذه الدولة السنية لم تسلم من خيانات الشيعة وغدرهم.

ففي سنة 450هـ، جاء الرافضي الخبيث البساسيري بجيوش إلى بغداد، مقر السلطان السلجوقي طغرل بك وكان غائبًا عنها ومعه الرايات البيضاء والأعلام مكتوب عليها اسم المصرية.

فَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الكَرْخِ مِنَ الرَّافِضَةِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَدَخَلَ الكَرْخَ وَخَرَجَ إِلَى مَشْرَعَةِ الزَّوَايَا فَعَسْكَرَ بِهَا، وَالنَّاسُ إِذْ ذَاكَ فِي مَجَاعَةٍ شَدِيدَةٍ. وَنَهَبَ أَهْلُ الكَرْخِ دُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالبَصْرَةِ وَتَمَلَّكُوا أَكْثَرَ السِّجِلَّاتِ وَالكُتُبِ الحُكْمِيَّةِ بَعْدَ مَا نُهِبَ دَارُ قَاضِي القُضَاةِ الدَّامَغَانِيِّ، وَبِيعَتْ لِلْعَطَّارِينَ، وَأَعَادَ الرَّوَافِضُ الآذَانَ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ فِي نَوَاحِي بَغْدَادَ، وَخَطَبَ بِبَغْدَادَ لِلْمُسْتَنْصِرِ بِاللهِ العُبَيْدِيِّ، وَضُرِبَتْ لَهُ السِّكَّةُ، وَحُوصِرَتْ دَارُ الخِلَافَةِ، ثُمَّ نُهِبَتْ، وَالرَّوَافِضُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ. وَانْتَقَمَ البَسَاسِيرِيُّ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَغْدَادَ، فَأَخَذَ وَزِيرَ ابْنِ مُسْلِمَةَ المُلقَّبَ بِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَطَرْطُورٌ مِنْ لِبْدٍ أَحْمَرَ، وَفِي رَقَبَتِهِ خِنَاقٌ، وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا أَحْمَرَ وَطَافَ بِهِ البَلَدَ، وَمَنْ يَصْفَعُهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ جِلْدٍ، وَخَلْفَهُ مَنْ يَرْمِي عَلَيْهِ النَّعْلَ. وَحِينَ مَرَّ عَلَى الكَرْخِ دُورِ الرَّافِضَةِ نَثَرُوا عَلَيْهِ الخَلْقَانَ، وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ، وَلَعَنُوهُ وَسَبُّوهُ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ التَّطْوَافِ بِهِ جِيءَ بِهِ إِلَى العَسْكَرِ، فَأُلْبِسَ جِلْدًا وَعُلِّقَ بِكَلْبٍ فِي خَدَّيْهِ وَثَوْرٍ بِقَرْنَيْهِ، وَرُفِعَ إِلَى خَشَبَةٍ فَجُعِلَ يُضْرَبُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللهُ. وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانِي سَعِيدًا وَأَمَاتَنِي شَهِيدًا[2]"

 

وقد أصبحت بلاد الشام مسرحًا للنزاعات بين السلاجقة الذين هم من أهل السنة والفاطميين الشيعة، مما أدى إلى تفكك وحدة المسلمين، ومهَّد الطريق أمام الصليبيين لغزو بلاد الشام بيسر وسهولة، حيث وصلوا إلى أطرافها في سنة 490هـ.

 

وهنا تبرز خيانات الفاطميين، فقد أرسل وزير المستعلي الفاطمي الشيعي، الجمالي بدر، سفارة من قبله إلى قادة الحملة الصليبية الأولى سنة 490هـ، تحمل خلاصتها عرضًا بأن يتعاون الطرفان للقضاء على السلاجقة في بلاد الشام، وأن تُقسَّم البلاد بينهما، بحيث يكون القسم الشمالي من الشام للصليبيين، بينما يحتفظ الفاطميون بفلسطين.

ولما كان هدف الصليبيين هو السيطرة على بيت المقدس، فقد اكتفوا ببث ردهم الغامض، واكتشفوا شعور الاطمئنان في نفوس الفاطميين، وبذلك تفككهم وضعف المسلمين.

ولما قام الأمير قَربُوقَا صاحب الموصل من قبل السلاجقة بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكية بيد الصليبيين، وقف الفاطميون موقف المتفرج، بل لم يكتفوا بذلك، بل استغلوا هذه الفرصة وساروا بجيش إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة، فحاصروه ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقًا، حتى تهدمت أسواره وسيطروا عليه[3].

واستغل زعماء الشيعة الإسماعيلية الخلاف بين بعض السلاطين السلاجقة في نحو سنة 488هـ، وتقربوا من رضوان بن تاج الدولة الذي كان على بلاد الشام، وحصلوا عنده على مكانة مرموقة، فتشيع لآرائهم، ولم يعبأ بما أحرزه الصليبيون من انتصارات واستيلاء على بعض بلاد الإسلام في آسيا الصغرى[4]، فقد استولوا على أنطاكية سنة 491هـ، ثم سيطروا على معرة النعمان سنة 492هـ، ثم واصلوا مسيرهم إلى جبل لبنان، فقتلوا من به من المسلمين، ثم نزلوا إلى حمص، فصالحوا صاحبها على مال يدفعه إليهم.

قال ابن كثير رحمه الله:

"في جمادى الأولى سنة 491هـ، ملكت الفرنج أنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المحافظين على الأبراج، ولما بلغ الخبر الأمير قَربُوقَا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة، واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما، وسار إلى أنطاكية، فالتقى مع الفرنج بأرض أنطاكية فهزمهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالًا جزيلة. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان، فأخذوها بعد حصار ولا حول ولا قوة إلا بالله[5]".

 

 

[1] ابن كثير: البداية والنهاية (12/ 68، 69).

[2] البداية والنهاية: 12/76-79 (بتصرف وإيجاز).

[3] أنس أحمد كرزون، نور الدين محمود زنكي القائد: 9-11 (بتصرف)، دار ابن حزم بيروت، 1995م.

[4] انظر: مسفر الغامدي، الجهاد ضد الصليبيين: 51 (نقلاً عن زبدة الحلب: 2/145).

[5] البداية والنهاية: 12/155.