كثيرًا ما يثير المغرضون شبهات حول صحيح الإمام البخاري رحمه الله، بدعوى أن فيه روايات عن رجال ضعّفهم البخاري نفسه، ومن أبرز تلك الشبهات ما ذُكر عن حُمران بن أبان، حيث ورد عنه في الصحيح روايات، مع أن الإمام البخاري قد تكلّم فيه وضعّفه في بعض المواضع. ولأن هذه القضية من دقائق علم الحديث، فقد وقع في فهمها كثير من الناس، وتسلّل من خلالها أهل الأهواء للطعن في أصح كتب الأمة بعد كتاب الله تعالى. غير أن علماء الحديث قد أجابوا عنها بأجوبة محكمة، توضّح منهج البخاري الدقيق في التعامل مع الرواة الضعفاء أو من تكلّم فيهم، بما يقطع دابر الشبهة ويظهر جلالة صنيعه رحمه الله.

 

السؤال:

وجدت شبهة تحتاج لرد متخصص، وهي: البخاري ضعّف أحد الرواة، وهو حُمران بن أبان، ثم أخرج له روايات في صحيح البخاري.. فكيف يضعّف راوٍ ثم يُخرج له؟ كيف تكون هذه الأحاديث صحيحة وفيها راوٍ ضعّفه البخاري نفسه؟

الجواب:

الحمدُ لله

أولاً:
هذه المسألةُ من دقيقِ مسائلِ علومِ الحديث، يخطئ في فهمها كثيرٌ من الناس، ويتورَّطون بما ينصبه لهم أعداءُ الإسلام من شُبه، في حين أن جوابها سهلٌ ميسور لا يختلف فيه أهل العلم المتخصِّصون.

وخلاصةُ هذه المسألة:

 أنه ليس من منهج الإمام البخاري في "صحيحه" ألا يخرج عن رُواةٍ مُتكلَّم فيهم أو موصوفين بالضعف، ولكن من منهجه ألا يُخرج إلا الصحيح من حديثهم. وفرقٌ بين الأمرين:

فالراوي الضعيف أو المُتكلَّم فيه لا يلزم أن تُردَّ جميعُ مروياته ما دام غير متَّهم بالكذب إذ قد يكون مُضعَّفاً في حالٍ دون حال، أو في شيخٍ دون شيخ، أو في بلدٍ دون بلد، أو في حديثٍ معيَّن دون أحاديث أُخرى، ونحو ذلك من أنواع التضعيف. فلا يجوز أن نردَّ جميع مروياته حينئذ، بل نقبل حديثه الذي تبيَّن لنا أنه ضبطه وحفظه وأدّاه كما حُفِظ، ونرد حديثه الذي تبيَّن لنا أنه أخطأ فيه، ونتوقَّف فيما لم يتبيَّن لنا شأنه. وهكذا هو حكم التعامل مع جميع مرويات الرواة الضعفاء، وليس كما يظن غير المتخصصين أن الراوي الضعيف تُردُّ جميعُ مروياته.

هذا هو منهج الأئمة السابقين، ومنهج الإمامين البخاري ومسلم صاحبي "الصحيحين"، ويُسمَّى منهج "الانتقاء من أحاديث الضعفاء"، أي: تصحيحُ أحاديث بعض الرواة المُتكلَّم فيهم بالضعف إذا تبيَّن أنهم قد حفظوا هذا الحديث بخصوصه، تماماً كما أننا قد نرد حديث الراوي الثقة إذا تبيَّن أنه لم يحفظ هذا الحديث المعين، أو خالف فيه مَن هو أوثق منه وأحفظ.

والبحث في المتابعات والشواهد، ومَن وافق هذا الراوي المُتكلَّم فيه من الرواة الثقات، مِن أنفع وسائل التثبّت من حفظ الراوي المتكلَّم فيه لتصحيح حديثه أو تضعيفه.

وتُعرفُ صحَّةُ حديثه بأمرين:

الأول: موافقةُ هذا الراوي لغيره ومتابعتهم له.

وهذا أمرٌ يُلاحظ في "صحيح البخاري"؛ فإنَّه يُكثر من ذِكر المتابعات والشواهد، فإنه يروي الحديث ثم يقول: تابعه فلان وفلان، إذا كان راويه ضعيفًا، أو كان الراوي ثقة لكن وقع فيه اختلاف في سنده ومتنِه، كما سيأتي توضيحه في "منهج البخاري في تعليل الأحاديث".

الثاني: مراجعةُ أصول الراوي والنظر فيها؛ فإنَّه ولو كان ضعيفًا في حفظه فإنه يُقبَل حديثه الموجود في أصوله إذا كان الراوي صدوقًا في الجملة. ومثال هذا: أحاديث إسماعيل بن أبي أويس.

وهذا المنهج يُعرف بـ منهج الانتقاء من أحاديث الضعفاء؛ أي أن حديثَ الضعيف لا يُردُّ جملةً ولا يُقبَل جملةً، وإنَّما يُقبَل ما صحَّ من حديثه فقط. كما أن الثقة لا تُقبَل أحاديثه مطلقًا، بل يُقبَل ما أصاب فيه ويُردُّ ما أخطأ فيه

 

قال الإمام ابن القيم وهو يرد على من عاب على مسلم إخراجَ أحاديث الضعفاء سيِّئي الحفظ كمطر الوراق وغيره :

"ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه، لأنَّه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام مَن استدرك عليه إخراج جميع أحاديث الثقة، ومن ضعَّف جميع أحاديث سيِّئي الحفظ. فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله. وطريقة مسلم: هي طريقة أئمَّة هذا الشأن".

منهج الإمام البخاري ص 144.

وخلاصةُ الكلام:

 أنَّ إخراج البخاري عن بعض الرواة الضعفاء أو المُتكلَّم فيهم لا يَخلو من الأحوال الآتية:

1-      إمَّا أن يكون الصواب في هذا الراوي هو التوثيق، وأن تضعيفَ مَن ضعَّفه مردودٌ عليه، مثل: عكرمة مولى ابن عباس.

2-      أو أن الراوي مُضعَّف في الأحاديث التي يتفرَّد بها فقط، أمَّا ما وافق فيه الرواةَ الآخرين فيُقبَل حديثه، فيُخرج البخاري له ما وافق فيه الثقات، لا ما تفرد به، مثل: أفلح بن حميد الأنصاري، ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وفضيل بن سليمان النميري.

3-      أو أن الراوي مُضعَّفٌ إذا روى عن شيخٍ معيَّن، أمَّا إذا روى عن غيره فيُقبَل حديثه، فتجد البخاري يجتنب روايته عن الشيخ المُضعَّف فيه، مثل: معمر بن راشد عن ثابت البناني.

4-      أو أن الراوي مُضعَّف بالاختلاط والتغيّر، فيروي له البخاري عمَّن أخذ عنه قبل اختلاطه وتغيّره، مثل: حصين بن عبد الرحمن السلمي.

5-      أو أن الراوي ضعيف، لكن البخاري لم يسُق له حديثًا من الأحاديث الأصول، وإنَّما أورده في إسناد يريد به متابعةَ إسنادٍ آخر أو الاستشهادَ له به، أو في حديث مُعلَّق.

وننقل هنا من كلام العلماء ما يدل على التقرير السابق:

يقول الحافظ ابن الصلاح رحمه الله ضمن كلامه عن سبب وجود رواة ضعفاء في "صحيح مسلم"، ومثله يُقاس الكلام على البخاري :

"عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح أيضًا.

والجواب: أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها:

أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده.

الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسنادٍ نظيفٍ رجاله ثقات ويجعله أصلًا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه.
الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته".

صيانة صحيح مسلم (ص 96 98).

ويقول الحافظ الحازمي (ت 524هـ) وقد قسَّم الرواة إلى خمس طبقات، وجعل الطبقة الأولى مقصد البخاري، ويخرج أحيانًا من أعيان الطبقة الثانية :

"فإن قيل: إذا كان الأمر على ما مهَّدت، وأن الشيخين لم يودعا كتابيهما إلا ما صح، فما بالهما أخرجا حديث جماعة تكلِّم فيهم، نحو: فليح بن سليمان، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وإسماعيل بن أبي أويس عند البخاري، ومحمد بن إسحاق وذويه عند مسلم؟

قلت: أمَّا إيداع البخاري ومسلم كتابيهما حديث نفرٍ نُسبوا إلى نوعٍ من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حدًّا يُرد به حديثهم".

شروط الأئمة الخمسة (ص 69 70).

ويقول الحافظ الذهبي رحمه الله:

"فما في الكتابين يعني صحيحي البخاري ومسلم بحمد الله رجلٌ احتجَّ به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة... ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات ففيهم مَن في حفظه شيء، وفي توثيقه تردُّد".

الموقظة (ص 79 81).

وقال الإمام ابن القيم وهو يرد على من عاب على مسلم إخراجَ أحاديث الضعفاء سيِّئي الحفظ كمطر الوراق وغيره، ومثله يُقاس الكلام على البخاري :

"ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام مَن استدرك عليه إخراج جميع أحاديث الثقة، ومَن ضعَّف جميع أحاديث سيِّئي الحفظ".

زاد المعاد (1/364).

ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

"وأمَّا الغلط فتارة يكثر في الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط، يُنظر فيما أُخرج له، إن وُجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، عُلم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق. وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف فيما هذا سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء.

وحيث يُوصَف بقلَّة الغلط، كما يُقال: سيِّئ الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنِّف من الرواية عن أولئك".

هدي الساري (ص 381).

ولهذا يرى الحافظ ابن حجر أن يكون تعريف الحديث الصحيح على هذا النحو:

"هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط، أو القاصر عنه إذا اعتضد، عن مثله، إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا معلَّلًا. وإنما قلتُ ذلك لأنني اعتبرتُ كثيرًا من أحاديث الصحيحين فوجدتُها لا يتم عليها الحكم بالصحة إلا بذلك يعني بتعدد الطرق ".

النكت على ابن الصلاح (1/86).

ويقول العلامة المعلمي رحمه الله:

"إن الشيخين يخرجان لمن فيهم كلام في مواضع معروفة:

أحدها: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذلك الكلام لا يضرُّه في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.

الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذلك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يُحتجَّ به مقرونًا، أو حيث تابعه غيره، ونحو ذلك.

ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاصٌّ بروايته عن فلانٍ من شيوخه، أو برواية فلانٍ عنه، أو بما سمع منه من غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه بالعنعنة وهو مُدلِّس، ولم يأتِ عنه من وجهٍ آخر ما يدفع ريبة التدليس.
فيخرجان للرجل حيث يصلح، ولا يخرجان له حيث لا يصلح".

التنكيل (ص 692).

ولذلك كلِّه يُنبِّه العلماء إلى عدم صحة الاستدلال على ثقة الراوي بمجرد إخراج البخاري له، وإنما ينبغي النظر في كيفية إخراج البخاري له؛ فإن أخرج له حديثًا في الأصول صحيحًا لذاته، فهذا الذي في أعلى درجات التوثيق. أمَّا من أخرج له في المتابعات أو صحيحًا لغيره فهذا يشمله اسم الصدق العام، ولكن قد لا يكون في أعلى درجات التوثيق.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

"تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان مقتضٍ لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين. وهذا معنى لم يحصل لغير مَن خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذُكر فيهما.

هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجاتُ مَن أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم".

هدي الساري (ص 381).

وهذا القيد الأخير مهم جدًا في كلام الحافظ ابن حجر؛ إذ يبيِّن أن قوله في بداية الفقرة بأن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه مقيدٌ بمن أخرج لهم في الأصول، أي الأحاديث التي يصححها بنفسها ولم يُوردها كمتابعة أو شاهد أو لغرض حديثي آخر. وهذا لا يُميِّزه إلا أهل العلم المختصون بالحديث.

وللتوسع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى فصل بعنوان: "موقف البخاري من الرواة الضعفاء

من كتاب منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها لأبي بكر كافي (ص 135 159).

ثانياً:
وعلى هذا فمن الخطإ الظاهر عند علماء الحديث الاعتراض بوجود بعض الرواة المتكلَّم فيهم في "صحيح البخاري"، فهذا أمر لا يخفى على المحدِّثين، ولا يخفى على الإمام البخاري نفسه، فالبخاري ينتقي من حديث المتكلَّم فيهم ما يجزم أنّه صحيح مقبول، سواء كان هذا الراوي مُضعَّفاً مِن قِبَل البخاري نفسه، أو مِن قِبَل غيره مِن المحدِّثين.

فكل راوٍ يُنقَل عن البخاري تضعيفه، لا بد في دراسته من التثبّت من عدّة أمور:

1-      التحقُّق من تضعيف البخاري له حقّاً، ولتحقيق ذلك يجب التنبّه إلى أنّ ذكر البخاري المجرّد للراوي في كتابه "الضعفاء" لا يلزم منه أنّه يميل إلى تضعيفه تضعيفاً مطلقاً، فقد يكون يرى ضعفه في بعض الأحاديث دون أخرى، أو في بعض الشيوخ دون آخرين، أو في حالٍ دون حال، وهكذا. وهذه مسألة دقيقة أيضاً تحتاج شرحاً وبسطاً، ولكن ليس هذا محلَّه. مع العلم أنّ للبخاري كتابين في "الضعفاء"، وهما:

"الضعفاء الكبير": وهذا الكتاب ما زال مخطوطاً.

"الضعفاء الصغير": وهذا هو المطبوع اليوم.

2-      النظر في كيفية إخراج البخاري عنه في "صحيحه" تبعاً للأمور التي سبق ذكرها في الجواب أعلاه: هل أخرج له في الأصول؟ وما هي الأحاديث التي أخرجها؟ هل لها شواهد ومتابعات؟ وإن كان الراوي مختلطاً يُنظر كيف أخرج البخاري عنه: قبل الاختلاط أم بعده؟ إلى غير ذلك من التفاصيل التي يُتقنها أهل الحديث.