يُعَدُّ القرآن الكريم أعظم معجزة خالدة في الإسلام، ومصدر التشريع الأول الذي تكفَّل الله بحفظه من التحريف والتبديل على مر العصور. ورغم هذا الحفظ الإلهي، فقد ظهرت في تاريخ بعض الفرق الضالة مزاعم باطلة تدَّعي وقوع التحريف أو النقصان في كتاب الله. ويُعدّ القول بتحريف القرآن من أخطر العقائد التي انفرد بها الإمامية الاثنا عشرية، إذ شكَّل هذا المعتقد أساساً لبناء نظريتهم في الإمامة، وإثبات مزاعمهم حول وجود نصوص قرآنية مزعومة في فضل آل البيت وإمامة علي رضي الله عنه. وقد خلّف الشيعة تراثاً ضخماً في هذا الباب، حيث أثبت عدد كبير من كبار أئمتهم القول بالتحريف، وألَّفوا فيه مصنفات مستقلة، حتى عدّه بعضهم من ضروريات مذهب التشيع. هذا المقال يستعرض أبرز أقوال علمائهم، ومروياتهم، وموقفهم من القرآن الكريم، مع بيان خطورة هذا المعتقد على وحدة الأمة الإسلامية وإجماعها عبر القرون على سلامة القرآن وصيانته.
ولا بد لنا من بيان موجز لهذه القضية، وكيف كان سيرهم العملي في هذا الاتجاه، وفيه بيان لعقائدهم التي خالفوا فيها المسلمين، فلجئوا إلى إخفائها تحت ستار التقية.
اعتقاد الشيعة بأن القرآن الموجود في أيدينا محرف:
اول ما اصطدم به اعداء الإسلام في طريقهم إلى تفريق وحدة المسلمين هو القرآن الكريم مصدر التشريع الأول، إذ لم يتأت لهم النفاذ إليه من باب التقية لتعطيل أحكامه، فكان أن عمدوا إلى فرية القول بتحريف القرآن.
فقد أجمع أئمة التشيّع - سوى من لا يعتد بخلافه - في هذه المسألة عندهم - على أن القرآن الموجود بين الدفتين ليس هو ذلك القرآن الذي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا القرآن الموجود بين أيدينا قد حذفت منه آيات كثيرة - بل وسور - فيها ذكر الإمامة وآل محمد واسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبرضي الله عنه، وكذلك فضائح المهاجرين والأنصار وغيرهم بزعمهم، وأن القرآن كما أنزل إنما جمعه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم توارثه الأئمة من بعده، وهو عند المهدي الآن، وسيظهره عند خروجه.
وأيدوا أقوالهم هذه بروايات وضعوها على ألسنة الأئمة، ذكرنا بعضا منها في كتابنا (الإمامة والنص) من سلسلة (الحقائق الغائبة) التي بين يديك، ولا بأس هنا بذكر بعض من أقوال علماء الشيعة في القرآن:
ذكر أقوال أبرز علماء الشيعة القائلين بتحريف القرآن:
من مختارات السقيفة: |
¨ شبهة أن ابن عمر كان يقول في الآذان حي على خير العمل
¨ موقف عمر سهم أهل البيت من الخمس
¨ نظرية الخُمس بين الفقيه والإمام الغائب
¨ روايات الشيعة التي تنقض عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الشيخ المفيد:
إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان[1].
◘ وقال: اتفقت الامامية على أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن، وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم[2].
◘ وقال: إن الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله، وليس فيه شيء من كلام البشر، وهو جمهور المنزل والباقي مما أنزله الله تعالى قرآناً عند المستحفظ للشريعة المستودع للأحكام لم يضع منه شيء، وإن كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله - أى عثمان - في جملة ما جمع لأسباب دعته إلى ذلك، منها قصوره عن معرفة بعضه، ومنه ما شك فيه، ومنه ما عمد بنفسه، ومنه ما تعمد إخراجه منه، وقد جمع أمير المؤمنين القرآن من أوله إلى آخره وألّفه بحسب ماوجب من تأليفه[3].
ويقول الكاشاني في تفسيره:
بعد أن أورد الكثير من الروايات الدالة على التحريف: المستفاد من مجمع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمدصلى الله عليه وآله وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي في كثير من المواضع، ومنها غير ذلك، وأنه ليس - أيضاً - على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم[4].
◘ وقال في موضع آخر: كما أن الدواعي كانت متوافرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوافرة على تغييره من المنافقين المبدلين للوصية المغيرين للخلافة؛ لتضمنه ما يضاد رأيهم وهواهم، والتغيير فيه إن وقع فإنما وقع قبل انتشاره في البلدان واستقراره على ما هو عليه الآن[5].
وخلص إلى هذا التسائل وهو القول بأنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن؛ إذ على هذا تحتمل كل آية منه أن تكون محرفة ومغيرة على خلاف ما أنزل الله، فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً، فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به.. إلى غير ذلك، فرده بالقول: ويخطر بالبال في دفع هذا الاشكال والعلم عند الله أن يقال : إن صحت هذه الأخبار فلعل التغيير إنما وقع فيما لا يخل بالمقصود كثير إخلال كحذف اسم علي وآل محمد ( صلى الله عليهم ) ، وحذف أسماء المنافقين عليهم لعائن الله فإن الانتفاع بعموم اللفظ باق وكحذف بعض الآيات وكتمانه فان الانتفاع بالباقي باق مع أن الأوصياء [6].
ويقول المجلسي في معرض شرحه للكافي:
في رواية هشام بن سالم عن الصادق: (إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبع عشرة ألف آية): الخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار فـي هـذا البـاب متواترة معنى، وطـرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن الأخبار في الإمامة، فكيف يثبتونها بالخبر[7]؟!
◘ وقال: إن عثمان حذف من هذا القرآن ثلاثة أشياء: مناقب أمير المؤمنين علي وأهل بيته، وذم قريش والخلفاء الثلاثة، مثل آية: (يا ليتني لم اتخذ أبا بكر خليلاً)[8].
كذلك أورد في تذكرته، بتمام سورة الولاية التي يدعي كشأن أضرابه أن عثمان - رضي الله عنه - قد حذفها من القرآن[9].
ويقول المازندراني:
في قول صاحب إكمال الإكمال شارح مسلم نقلاً عن الطبرسي: إن آي القرآن ستة آلاف وخمسمائة، منها خمسة آلاف في التوحيد، وبقيتها في الأحكام والقصص والمواعظ: أقول: كان الزائد على ذلك مما في الحديث سقط بالتحريف، وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها.[10].
ويقول نعمة الله الجزائري في أنواره:
إنه قد استفاض في الأخبار أن القرآن كما أنزل لم يؤلفه إلا أمير المؤمنين بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم،فبقي بعد موته ستة أشهر مشتغلاً بجمعه، فلما جمعه كما أنزل أتى به إلى المتخلفين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزل، فقال عمر بن الخطاب: لا حاجة بنا إليك ولا إلى قرآنك، عندنا قرآن كتبه عثمان. فقال لهم علي: لن تروه بعد هذا اليوم، ولا يراه أحد حتى يظهر ولدي المهدي. وفي ذلك القرآن زيادات كثيرة، وهو خال من التحريف[11].
◘ وقال في موضع آخر: ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة؛ فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غيروا وبدلوا في الدين ما هو أعظم من هذا، كتغييرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه من مدائح آل الرسول والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساوئهم[12].
◘ ويقول: وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه، بحيث لا يسعنا إنكاره، والعجب العجيب من الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي والمرتضى في بعض كتبه كيف أنكروه وزعموا أن ما أنزله الله تعالى هو هذا المكتوب، مع ان فيه رد متواتر الأخبار[13].
ونقل عنه النوري الطبرسي قوله:
إن الأخبار الدالة على التحريف تزيد على ألفي حديث[14].
ويقول العاملي:
اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه - بحسب الأخبار المتواترة الآتية وغيرها - أن القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء من التغيرات، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيرا من الكلمات والآيات، وأن القرآن المحفوظ عما ذكر الموافق لما أنزله تعالى ما جمعه علي وحفظه إلى أن وصل إلى ابنه الحسن، وهكذا إلى أن انتهى إلى القائم، وهو اليوم عنده صلوات الله عليه[15].
◘ وفي موضع آخر قال بعد ان أسهب في إثبات هذه المسألة، وأورد أسماء من قال به ممن سبقوه، وفند أقوال من ظن أنهم منكروه، قال: وعندي من وضوح صحة هذا القول بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع، وأنه من أكبر مفاسد غصب الخلافة، فتدبر[16].
ويقول البحراني:
في معرض إنكاره لمسألة القراءات السبع: ومما يدفع ما ادعوه - أى تواترها - أيضاً استفاضة الأخبار المتكاثرة بوقوع النقص في القرآن والحذف منه، كما هو مذهب جملة من مشايخنا المتقدمين والمتأخرين[17].
◘ وفي موضع آخر في تعليقه على قراءة آية الوضوء، ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، على النصب قال: وليس بالبعيد أن هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز؛ لثبوت التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا، وإن كان بعض أصحابنا ادعى الإجماع على نفي الأول، إلا أن في الأخبار ما يرده، كما أنهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار[18]، حيث إن الوارد في أخبارنا أنها نزلت: ﴿فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها﴾، فحذفوا لفظ (رسوله) وجعلوا محله الضمير، ويقرب بالبال كما ذكر - أيضاً - بعض علمائنا الأبدال أن توسيط آية ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾، في خطاب الأزواج من ذلك القبيل[19].
◘ أقول: يقصد بقوله: (كما ذكر بعض علمائنا الأبدال)، المجلسي صاحب البحار، حيث قال: فلعل آية التطهير - أيضاً - وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه، أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية، ولو سلم عدم التغيير في الترتيب فنقول: سيأتي أخبار مستفيضة بأنه سقط من القرآن آيات كثيرة، فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات[20].
ويقول سلطان محمد بن حيدر الخرساني:
اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه، بحيث لا يكاد يقع شك في صدور بعضها منهم، وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن لا في لفظ القرآن كلغة، ولا يليق بالكاملين في مخاطباتهم العامة... إلى أن قال: كما كانت الدواعي متوافرة في حفظه، كذلك كانت متوافرة من المنافقينفي تغييره[21].
والطهراني في كتابه (محجة العلماء):
تناول مسألة التحريف بإسهاب وتوسع، إذ نقل إجماع الشيعة على القول بهذه المسألة، وذكر أقوالهم، وفند - على حد زعمه - أقوال أهل السُنة في كون القرآن الموجود بين الدفتين هو القرآن بتمامه، كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما زيف أقوال أضرابه المنكرين للتحريف وطعن فيهم، وخلص إلى القول بإجماع الشيعة على هذه المسألة، بل وكونه من ضروريات مذهبهم[22].
أما النوري الطبرسي فقد صنف كتاباً مستقلاً في المسألة، قال في مقدمته:
هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)[23].
وكتابه هذا زهاء أربعمائة صفحة، أورد فيه كل ما وقف عليه من أخبار وأقوال ونصوص بلغت المئات، كلها في إثبات مسألة التحريف، وعند طبعه عام (1298) للهجرة ثارت حوله ضجة عند القوم لافتضاح معتقدهم في هذه المسألة، فلم يقف المصنف أمامها مكتوف اليدين، بل صنف رسالة في دفع الشبهات التي أثيرت حوله[24].
ويقول السيد عدنان:
إن القول بالتحريف والتغيير من المسلمات عند الفرقة المحقة، وكونه من ضروريات مذهبهم، وبه تظافرت أخبارهم[25].
◘ وخلص إلى القول -بعد أن أورد الروايات الدالـة علـى التحريـف وتفنيـد أقوال المنكرين- إلى أن الأخبار من طريق أهل البيت كثيرة - إن لم تكن متواترة - على أن القرآن الذي بأيدينا ليس هو القرآن بتمامه كما انزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو محرف ومغير، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي في كثير من المواضع، ومنها لفظة (آل محمد) ومنها أسماء المنافقين، ومنها غير ذلك، وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما في تفسير علي بن إبراهيم[26].
[1] أوائل المقالات للمفيد (91).
[2] أوائل المقالات للمفيد (48).
[3] المسائل السروية للمفيد (79).
[4] تفسير الصافي، المقدمة السادسة (1/49).
[5] تفسير تفسير الصافي للفيض الكاشاني (1/54).
[6] تفسير تفسير الصافي للفيض الكاشاني (1/51).
[7] مرآة العقول للمجلسي (12/525).
[8] تذكرة الأئمة للمجلسي (9)، وانظر: الانتصار للعاملي (3/329).
[9] تذكرة الأئمة للمجلسي (9، 10).
[10] شرح أصول الكافي، لمحمد صالح المازندراني (11/88).
[11] الأنوار النعمانية (2/360).
[12]الأنوار النعمانية (1/97).
[13] شرح الصحيفة السجادية (43).
[14] فصل الخطاب للنوري الطبرسي (251).
[15] مرآة الأنوار للعاملي (36).
[16]مرآة الأنوار للعاملي (49).
[17] الحدائق الناضرة ليوسف البحراني (8/10).
[18] يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
[19] الحدائق الناضرة ليوسف البحراني (2/289، 290)- ولم يزد محقق الكتاب - محمد تقي الإيرواني - على هذا القول سوى قوله: إن الآية الأولى من سورة التوبة، ورقمها (40)، والأخرى من سورة الأحزاب، ورقمها (33).
[20] بحار الأنوار للمجلسي (35/235)، وانظر أيضاً قولاً آخر شبيهاً له في: بحار الأنوار للمجلسي (65/110).
[21] تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، للخراساني (1/20).
[22] انظر كتاب: محجة العلماء في الأدلة العقلية، لمحمد هادي الطهراني.
[23] انظر: فصل الخطاب للنوري الطبرسي (2).
[24] انظر في ذلك مثلا: الذريعة (10/220، 16/231) الأنوار النعمانية (2/364 الحاشية) تعليق محقق الكتاب
[25] مشارق الشموس (126).
[26]مشارق الشموس (127).