تُعد مسألة القول بتحريف القرآن الكريم من أبرز القضايا التي أثارت جدلاً واسعاً في تاريخ الفكر الشيعي، حيث ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بعقيدة التقية وأهدافها السياسية والعقدية. فبينما أجمع جمهور علمائهم المتقدمين على القول بالتحريف صراحة أو ضمناً، حاول بعض متأخريهم إنكار هذه العقيدة بدعوى الإجماع على سلامة النص القرآني، وهو ما فتح باب التساؤل: هل كان هذا الإنكار بدافع الإيمان الحق، أم أنه جاء على سبيل المداراة والتقية؟
لقد حاول بعض كبار علمائهم – كالمرتضى والصدوق والطوسي والطبرسي – أن ينفوا صراحة القول بالتحريف، غير أن نصوصهم الأخرى أو مواقف تلامذتهم ومشايخهم أظهرت اضطراباً وتناقضاً في الموقف، مما جعل خصومهم يتوقفون عند حقيقة هذه الأقوال ويُرجحون أنها صادرة تحت ضغط التقية ومراعاةً للظروف السياسية آنذاك. ويكشف البحث عن اعترافات واضحة لعلماء من الشيعة أنفسهم بأن هذا النفي إنما كان مراعاةً لمصالح مذهبية ودفعاً للطعن الذي يوجهه المسلمون إليهم. ومن هنا فإن هذه القضية ليست مجرد خلاف نظري بل هي مفتاح لفهم علاقة عقيدة التقية بتحريف القرآن وكيفية توظيفها في عزل الشيعة عن سائر الأمة الإسلامية.
حقيقة قول المنكرين للتحريف:
وكما ذكرنا فإن هذة المسألة محل إجماع عند القوم كما رأيت من بعض النقول السابقة، وقد أوردنا هنا بعضا من أقوالهم في المسألة وبإيجاز لسببين متعلقين بموضوع كتابنا:
الأول: الكلام في أسباب التقية، حيث ذكرنا أن الذين وضعوا هذه العقيدة إنما أرادوا أن يبعدوا الشيعة عن سائر المسلمين، فكان لا بد لهم من الطعن في المصدر الأول في مصادر التشريع لدى المسلمين، لتعطيل العمل بأحكامه.
والسبب الآخر المتعلق بموضوع الباب:
هو قطع الطريق على أي صوت يصدر من علماء القوم ينادي برفع عزلة هذه الطائفة عن المسلمين بنبذ هذه العقائد التي ما أنزل الله بها من سلطان، ففي موضوع القرآن – مثلاً – لم يشذ عن القول بالتحريف على الراجح سوى أربعة، ولا عبرة بمتأخري القوم، فهم لن يغيروا من الأمر شيئاً، فالمذهب قائم من قبل أن يولدوا، وهؤلاء الأربعة هم: الشريف المرتضى، الشيخ الصدوق، شيخ الطائفة الطوسي، والطبرسي.
وكل من أراد من القوم نفي هذه الفرية عنهم يحيلنا إلى أقوال هؤلاء، وهؤلاء الأربعة إنما أرادوا بنفيهم لعقيدة التحريف القول بأن الشيعة كسائر المسلمين يعتقدون بهذا القرآن؛ لعلمهم بأن الاعتقاد بكونه محرفاً يخرج بقائله عن الإسلام والمسلمين.
وبغض النظر عن حقيقة أقوال هؤلاء والاضطراب في ذلك، حيث إن بعضهم أورد في مصنفاته ما يدل على القول بالتحريف، وكذلك كون بعضهم شيخاً للبعض ومن تلاميذ آخرين، كالشيخ المفيد الذي مر قوله وإقراره بالتحريف، فهو من تلاميذ الشيخ الصدوق، ومن شيوخ المرتضى علم الهدى، وشيخ الطائفة الطوسي، وهؤلاء – كما عرفت – أنكروا التحريف؛ فإن هذا يضع امامنا علامة استفهام كبيرة لحقيقة الأمر، ولما إذا كانت أقوالهم هذه صدرت على وجه التقية أم على خلافه، وهو موضوع الباب، وإليك بيان ذلك:
اعتراف علماء الشيعة بأن إنكارهم تحريف القرآن صدر منهم تقية لمصالح كثيرة:
◘ يقول الجزائري:
والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها: سد باب الطعن عليها بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها، وسيأتي الجواب عن هذا، كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخباراً كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا نزلت ثم غيرت إلى هذا[1]؟!
◘ ويقول النوري الطبرسي:
لم يعرف الخلاف صريحاً إلا من هؤلاء المشايخ الأربعة، وما حكى عنهم المفيد، ثم شاع هذا المذهب بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم، حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكى عليه الإجماع. وبعد ملاحظة ما ذكرناه تعرف أن دعواه جرأة عظيمة، وكيف يمكن دعوى الإجماع - بل الشهرة المطلقة - على مسألة خالفها جمهور القدماء وجل المحدثين وأساطين المتأخرين، بل رأينا كثيراً من كتب الأصول خالية عن ذكر هذه المسألة، ولعل المتتبع يجد صدق ما قلناه ونقلناه[2].
وقال في موضع آخر في معرض رده على المرتضى: كيف وقد عد هو في (الشافي من مطاعن عثمان): أن من عظيم ما أقدم عليه جمعه الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وإبطاله ما لا شك أنه من القرآن، ولولا جواز كون بعض ما أبطله أو جميعه من القرآن لما كان ذلك طعنا[3].
مختارات من مقالات السقيفة |
- هل ينفع النبي عندكم أيها الشيعة؟ - الكذب والغيبة عند الشيعة من مفطرات الصيام - إلزام (إسحاق هو ذبيح الله وليس اسماعيل عليهما السلام) |
◘ وفي رده على الطوسي قال:
لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان - وهو الكتاب الذي ادعى فيه الطوسي بأن القرآن غير محرف - أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين؛ فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم، ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة عليهم السلام، إلا قليلا في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون، بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذين حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم وهو بمكان من الغرابة، فلو لم يكن على وجه المماشاة فمن المحتمل أن يكون هذا القول منه نحو ذلك، ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجليل علي بن طاوس في سعد السعود، وهذا لفظه: نحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر بن الحسن الطوسي في كتاب (التبيان) وحمله التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني والخلاف في أوقاته[4].
◘ ويقول الطهراني:
وكيف كان، فالمتتبع هو البرهان لا الأساطين والأعيان، ولا يعرف لهؤلاء موافق إلى ذلك الزمان، وإنما شاع بعد عصر الطبرسي، مع أن إسناده إلى الشيخ والطبرسي في غاية الإشكال، فدعوى الإجماع على عدم التحريف عجيبة، حيث لا يعرف سوى الصدوق والمرتضى إلى عصر متأخر المتأخرين، وقد عرفت الذاهبين إلى الحق[5].
وهكذا حمل أقوالهم على التقية سائر من رد عليهم ممن اعتقد بالتحريف من بني جلدتهم، وأهل مكة أدرى بشعابها.
والغريب بعد كل هذا أن يأتي من القوم من يتهمنا بأننا نحن الذين حملنا أقوال هؤلاء المنكرين للتحريف على التقية.
◘ يقول السبحاني:
إن من العجيب جداً أن يحمل بعض المغرضين الذين أيسوا من الأساليب الأخرى كل هذه التصريحات القاطعة من قبل علماء الشيعة الإمامية بعدم تحريف القرآن الكريم على «التقية»! فإنه يقال لهؤلاء بأن «التقية» ترتبط بأحوال شخص يكون في ظروف الخوف والخطر، وهؤلاء العلماء الكبار لم يكونوا يخافون أحداً حتى يضطروا إلى ممارسة «التقية»، ثم إن هذه الكتب قد ألفها علماء الإمامية - في الأساس - لأتباع المذهب الشيعي، والهدف منها هو تعليم عقائد الشيعة لأتباع ذلك المذهب، ولهذا فإن من الطبيعي أن تحتوي هذه الكتب على العقائد الحقيقية[6].
إنكار بعض المتأخرين من الشيعة لعقيدة تحريف القرآن:
ولا زال أذناب هؤلاء في أيامنا هذه ينتهجون مناهجهم وهم يرون في التقية فسحة وملاذاً آمناً، فهذا شرف الدين الموسوي يقول: نُسب إلى الشيعة القول بالتحريف بإسقاط كلمات وآيات، فأقول: نعود بالله من هذا القول، ونبرأ إلى الله من هذا الجهل، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا؛ فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته[7].
وهذا لطف الله الصافي يقول رداً على محب الدين الخطيب رحمه الله: فانظر ما في كلامه هذا من الكذب الفاحش والافتراء البين، ليس في فصل الخطاب لا في ص (180) ولا في غيرها من أول الكتاب إلى آخره - ذكر لهذه السورة المكذوبة على الله تعالى، التي يقول الخطيب: إن الشيعة تسميها سورة الولاية مذكورة فيها ولاية على[8].
وأنا هنا لا أزيد سوى القول بأن السورة مذكورة كما قال الخطيب في فصل الخطاب للطبرسي، وفي الصفحة نفسها، ومن أراد المزيد فالكتاب منشور في موقعنا[9].
◘ وهذا آخر - هو الأميني - يقول: ليت هذا المجترئ - أي: ابن حزم - أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثوق به أو حكاية عن عالم من علمائهم تقيم له الجامعة وزناً، أو طالب من رواد علومهم ولو لم يعرفه أكثرهم، بل نتنازل معه إلى قول جاهل من جهالهم أو قروي من بسطائهم أو ثرثاراً كمثل هذا الرجل يرمي القول على عواهنه، لكن القارئ إذا فحص ونقب لا يجد في طليعة الإمامية إلا نفاة هذه الفرية، كالشيخ الصدوق في عقائده، والشيخ المفيد، وعلم الهدى، وشيخ الطائفة الطوسي، في التبيان وأمين الإسلام في مجمع البيان، وهذه فرق الشيعة في مقدمتهم الإمامية مجمعة على أن ما بين الدفتين هو ذلك الكتاب لا ريب فيه[10].
فانظر أخي القارئ! إلى مساوئ التقية وكيف أنها توصل بصاحبها إلى هذا الدرك من فساد العقيدة وخبث السريرة واستحلال التلبيس على عباد الله، فهل كان يرى أن عقائد أضرابه بمنأى عن غيره حتى يجد لنفسة هذه الحرية في الإنكار والتقية؟!
فهل القمي والصفار والكليني والمفيد - الذي نسبه إلى المنكرين للتحريف - والعياشي وفرات والطبرسي صاحب الاحتجاج، والكاشاني، والمجلسي، والجزائري، والبحراني، والعاملي، والخراساني، والطهراني، والنوري الطبرسي، والسيد عدنان، وغيرهم ممن ذكرناهم أو لم نذكرهم، هل هؤلاء من أساطين القوم الذين أسسوا بنيان التشيع وقعدوا قواعده وأصلوا أصوله، أم أنهم من جهالهم أو قروييهم أو ثرثارييهم؟!
نماذج لتناقض بعض هؤلاء المنكرين:
حيث نفوا التحريف في مواضع من كتبهم وأقراوا به في مواضع أخرى:
الطريف أن الأميني في الكتاب نفسه - وهو في فورة حماسه في حشد كل ما يراه طعناً في الخلفاء من روايات موضوعة أو لا تخدم غرضه - أقر من حيث يشعر أو لا يشعر بالتحريف، حيث قال: إن بيعة الصديق رضي الله عنه قد عمت بشؤمها الإسلام، وزرعت في قلوب أهلها الآثام، وعنفت سلمانها وطردت مقدادها ونفت جندبها وفتقت بطن عمارها، وحرفت القرآن وبدلت الأحكام وغيرت المقام[11].
تماًما كما فعل آخر - وهو الخوئي - في بيانه، حيث نفى التحريف أولاً ثم قال من حيث أراد أو لم يرد: إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام، ولا أقل من الإطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر[12].
وهكذا نرى أول تطبيق عملي للتقية من جهة أنها وضعت لعزل الشيعة عن سائر المسلمين، وكيف أنهم حجّروا واسعاً في أمر كان فيه خلاصهم من قبل هؤلاء الذين أرادوا إخراج القوم من مستنقع القول بالتحريف الذي يخرجهم عن دائرة الإسلام، هذا إن صحت نياتهم - ولا أظن - ليؤكدوا للعالم بأنهم لا يؤمنون بمصدر التشريع الأول للمسلمين، وأن على هذا إجماع الطائفة، وأنها من ضروريات مذهب التشيع، ومن شذ عن ذلك إنما كان منه تقية؛ لأن سيوف الأمويين والعباسيين ومن بعدهم العثمانيين كانت على رقابهم، فاضطرتهم إلى الأخذ بالتقية؛ لإخفاء معتقدهم الذي هو موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده كما زعم بعضهم، نعم هكذا يريد القوم أن يصوروا لنا أسباب لجوئهم إلى التقية.
[1] الأنوار النعمانية (2/358).
[2] فصل الخطاب، للنوري الطبرسي (37).
[3] فصل الخطاب، للنوري الطبرسي (35).
[4] فصل الخطاب، للنوري الطبرسي (37).
[5] محجة العلماء، للطهراني (158).
[6] العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (ع)، لجعفر السبحاني (175).
[7] أجوبة مسائل جار الله (28).
[8] مجموعة الرسائل، للطف الله تفسير الصافي للفيض الكاشاني (2/377)، مع الخطيب في خطوطه العريضة، لطف الله تفسير الصافي للفيض الكاشاني (72).
[9] http://www.fnoor.com/quran.htm
[10] الغدير للأميني (3/101).
[11] الغدير للأميني (9/388).
[12] البيان في تفسير القرآن للخوئي (226).