لقد انتشرت في الأزمنة المتأخرة دعاوى كثيرة من قبل بعض الفرق الضالة، تزعم أنّ الأرض لا تخلو من "حجة لله" بمعنى وجود إمام معصوم في كل زمان، وأن الدين لا يُقام إلا به. وقد حاول بعضهم إلصاق هذا المعنى بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عبارته المشهورة: «فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة».
وفي هذا المقال نبيّن السياق الصحيح لهذا القول، وندحض التأويل الباطل الذي حاولت تلك الفرق إلصاقه بمراد ابن تيمية، مستعرضين نصوصه الكاملة من مجموع الفتاوى، ومبيّنين أن مراده هو قيام طائفة من أهل العلم والحق بحجة الله تعالى، لا وجود إمامٍ معصوم كما تزعم الشيعة الإمامية وسائر غُلات الفرق.

الشبهة:

قال ابن تيمية رحمه الله:

«فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته».

وقد استدل بعضهم بهذه العبارة على أن ابن تيمية يقرّ بمبدأ وجود إمامٍ معصومٍ في كل زمان، كما يعتقد الشيعة الإمامية في أئمتهم الاثني عشر، وأن هذا القائم هو الحجة الدائمة على الخلق.

الرد:

قال ابن تيمية رحمه الله في بداية الخطبة المسماة بخطبة الرسالة ضمن مجموع الفتاوى:

«أمّا بعد: فإن الله قد أكمل لنا ديننا، وأتمّ علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم ولا نتبع السبل فتفرّق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أنزلها الله على موسى... »

(مجموع الفتاوى، صـ126).

هنا يبيّن ابن تيمية رحمه الله أن الله تعالى قد أكمل الدين على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وأتمّ النعمة، فلا مجال لاعتقاد أن هناك وصياً أو إماماً بعده يُكمل التشريع أو يحفظ الدين بعصمته.

ثم قال في موضع آخر من نفس الرسالة:

«ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه؛ وجب أن يكون فيهم من يحرّف الكلم عن مواضعه، فيغيّر معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به، وفيهم أميّون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين. ثم قد يُناظرون المحرّفين وغيرهم من المنافقين أو الكفار، مع علم أولئك بما لم يعلمه الأميّون؛ فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميّون هو غاية علم الدين، ويصيروا في طرفي النقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميّون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (سورة الحجر: الآية 9). ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقاً؛ لما ينطق الله به القائمين بحجة الله وبيّناته الذين يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى؛ فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيّناته». (مجموع الفتاوى، صـ130131).

يتضح من النص أن ابن تيمية رحمه الله يتحدث عن بقاء طائفة من أهل الحق تحمل العلم وتُبيّن الدين وتحفظ الشريعة، فهم القائمون لله بحجته، وليس المقصود إماماً معصوماً معيناً كما تزعم الفرق الضالة.

فالحجة هنا: هي العلم والبيان، لا العصمة والتشريع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» (رواه مسلم).

وهذا دليل واضح على بقاء الدين وقيام الحجة إلى قيام الساعة، بوجود العلماء والمجاهدين والدعاة إلى الحق، لا بوجود شخصٍ معصومٍ يدّعي الإمامة.

وقال الله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (سورة هود: الآيتان 118119). أي أن الاختلاف سنة كونية، لكن الرحمة لأهل الحق الذين أقام الله بهم حجته.

كما قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية:

«فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسني حجة من جنسها أولى منها، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها. قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ (سورة الفرقان: الآية 33)».

(منهاج السنة النبوية، ج7، ص456).

فالمقصود إذن بقول ابن تيمية: «فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة» هو أن الله تعالى يُقيم في كل زمان من يُظهر دينه ويجدد أمره، من العلماء والأئمة والدعاة، لا أن هناك إماماً معصوماً غائباً أو مكلّفاً بعصمة مخصوصة، كما تدّعي الفرق الباطنية والرافضة.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:

«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه أبو داود وصححه الألباني).

فبهذا يتّضح أن الحجة في الأمة قائمة بالعلم والدعوة، لا بالإمامة المعصومة، وأن فهم ابن تيمية رحمه الله منسجم تماماً مع نصوص الكتاب والسنة، لا مع الأوهام التي تبناها الغلاة.

المصادر:

1)  ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مجلد 1، صـ126، 130131.

2) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج7، صـ456.

3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق».

4) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، حديث تجديد الدين.

5) القرآن الكريم.