التقية عند الشيعة: تناقضات في روايات الأئمة وتحليل نقدي

يتناول هذا المقال قضية التقية عند الشيعة، وخصوصًا ما يتعلق بجوازها للأئمة عليهم السلام حتى في غياب المخالفين. تُظهر التحقيقات في كتب الشيعة وكتب علمائهم مثل البهبهاني أن هناك تناقضات واضحة في ما يُروى عن جواز التقية، إذ يُبيّن بعض العلماء أن التقية مقصورة على حالات معينة وليست مطلقة، وأنه لا يجوز للأئمة ممارسة التقية في بعض الأمور المعلومة والمشهورة بين الناس مثل الجهر بالبسملة أو المسح على الخفين، بل جاءت هذه الروايات لتسليط الضوء على التناقضات بين القول بالمجوزات الفقهية وبين الواقع العملي لما اشتهر من أفعال الشيعة. هذا المقال يوضح هذه التناقضات، ويحلل الروايات، مع الاستناد إلى المصادر الشيعية نفسها، موضحًا أثر هذه الممارسات على فهم الدين وتطبيقه.

يقول البهبهاني:

اعلم أن كون الحكم تقية إنما هو إذا كان موافقا لمذهب العامة كلهم أو بعضهم، على ما هو المعروف من الأصحاب القدماء والمتأخرين، إلا أنه توهم بعض الأخباريين فجوز كونه تقية، وإن لم يكن موافقاً لمذهب أحد من العامة، بل لمجرد تكثير المذهب في الشيعة، كي لا يعرفوا فيؤخذوا ويقتلوا.

 وهذا التوهم فاسد من وجوه:

الأول: أن الحكم إذا لم يكن موافقاً لمذهب أحد من العامة يكون رشداًَ وصواباً، لما ورد في الأخبار، (فإن الرشد في خلافهم) وفيما لم يذهبوا إليه، فكيف يكون مثل هذا تقية؛ لأن المراد من الرشد والصواب ما هو في الواقع رشد وصواب، لا من جهة التقية ودفع الضرر، وإلا فجميع ما ذهب إليه العامة يصير رشداً وصواباً، وأيضاً: إذا كان رشداً وصواباً فلم حكمت بأنه تقية ومخالف لمذهب الشيعة؟!

الثاني: أنه غير خفي على من له أدنى اطلاع وتأمل أن العامة بأدنى شيء كانوا يتهمون الشيعة بالرفض، وأذيتهم للشيعة إنما كانت بالتهمة غالباً، وهذه كانت طريقتهم المستمرة في الأعصار والأمصار، فكيف يكون الحال إذا رأوا أنهم يفعلون فعلاً لا يوافق مذهباً من مذاهبهم ولا يقول به أحد منهم؟! إذ لا شبهة في أنهم كانوا يتهمون بذلك، بل بمثل ترك التكتف في الصلاة كانوا يتهمون، مع أنه مذهب مالك رئيسهم الأقدم الأعظم في ذلك الزمان وغيره، والأئمة عليهم السلام كانوا يأمرون بمثل التكتف وأدون منه كما لا يخفى على متتبع الأخبار، وكانوا يبالغون في احترازهم عن أسباب التهمة، فكيف كانوا يأمرون بما لم يوافق مذهباً من مذاهبهم؟!

بل غير خفي أن العامة ما كانوا مطلعين على مذهب الشيعة في ذلك الزمان من الخارج إلا نادراً، وكانوا كلما يرون مخالفاً لمذهبهم يعتقدون أنه مذهب الشيعة، ويبادرون بالأذية، وما كانوا يصبرون إلى أن يروا ما يخالف ذلك منه أو من غيره من الشيعة، مع أن رؤيته من غيره كيف تنفع؟! هذا سيما إذا كان موافقاً لمذهب أهل السُنة كلهم أو بعضهم، بل لو كان الكل مخالفاً لمذهبهم ورأوه منه لا ينفع؛ لأن الكل خلاف الحق عندهم، وهم ربما كانوا يؤذون من هو سني عندهم جزماً بمخالفته للحق، فكيف غيره؟!

الثالث: أن الحق عندنا واحد، والباقي باطل: (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ))، وفي المثل: (الكفر ملة واحدة) فأي داع إلى مخالفة التقية، وارتكاب الخطر الذي هو أعظم لأجل تحقق التقية التي هي أخف وأسهل؟ فتأمل!!

الرابع: أن التقية اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحق على الذي ليس بحق ورشد على ما يظهر من الأخبار وما عليه الفقهاء في الأعصار والأمصار، وهذا الفاضل المتوهم أيضاً اعتبر ما ادعاه من التقية التي توهمها لأجل الترجيح، وبنى عليه المسألة الفقهية، فإذا لم يكن موافقاً لمذهب أحد من العامة، فبأي نحو يعرف أنه هو التقية حتى يعتبر في مقام الترجيح، ويقال: إن معارضه حق وهو مذهب الشيعة؟ فإن قلت: إذا رأينا المعارض مشتهراً بين الأصحاب يحصل الظن بأنه مذهب الشيعة. قلت: على تقدير التسليم يكفي مجرد الشهرة، فلا حاجة إلى اعتبار التقية؛ لأن المفروض ظهور مذهب الشيعة، والشهرة مرجح على حدة، فعلى هذا لو لم يوجه الخبر الذي توهم منه ما توهم لا يضر، فتأمل!

ومضمون الخبر: أني أوقعت الخلاف بين شيعتي؛ إذ لو كانوا على طريقة واحدة لعرفوا وأخذوا[1].

 والكلام في الباب يطول.............

والغريب بعد كل هذا - والذي يناسب ذكره هنا - أن الأمور التي تعرف بها الشيعة كعدم جواز المسح على الخفين، والجهر بالبسملة الذي هو شعار الشيعة وقد عرفوا به، حتى قالوا هم في ذلك: إن المشهور من شعار الشيعة الجهر بالبسملة[2]، وقال الصدوق: من دين الإمامية الإقرار بأنه يجب الجهر بالبسملة عند افتتاح الفاتحة، وعند افتتاح السورة وبعدها[3].

ورووا أن الرضا كتب إلى المأمون: من محض الإسلام الإجهار بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» في جميع الصلوات[4].

ويقول الميرزا القمي:

 وروي عن كشف الغمة: عن جابر قال: أجمع آل الرسول صلى الله عليه وآله على الجهر بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» وأن لا يمسحوا على الخفين.

 ونقل عن ابن خالويه:

إن هذا مذهب الشيعة، ومذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو المنقول من فعل الرضا عليه السلام في جميع صلواته بالليل والنهار[5].

وغيرها من أقوال في كون الجهر بالبسملة من شعار مذهب آل البيت.

أقول: الغريب أنهم لا يرون ولا يجوزون التقية فيها، حتى قال ابن أبي عقيل: تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام أن لا تقية في الجهر بالبسملة[6].

ورووا عن الباقر رحمه الله أنه قال:

«التقية ديني ودين آبائي، ولا تقية في ثلاث: شرب المسكر، والمسح على الخفين، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» [7].

وكذلك ما جاء في التكبيرات على الميت، حيث جعلوها خمساً بحسب أركان الإسلام، حيث يرون أن الإمامة منها، فقد رووا عن الرضا عليه السلام أنه سئل: هل يجوز لنا أن نكبر أربعاً تقية؟

 فقال: «لا. بل خمس لا تقية فيهن» [8].

فكيف يستقيم كل هذا وغيره مع ما ذكروه آنفا؟! أليست هذه الأمور أولى بالتقية فيها بعد اشتهار الشيعة بها، وبعضها يتكرر يومياً بعدد الصلوات؟!

 إنها تناقضات لا تنتهي!!

هذا مع قولهم: إن التقية في كل شيء إلا في الدماء كما مر بك!

والطريف هنا:

أن هذه المسائل - أيضاً - لم تسلم من التناقض، فذكروا أن التقية تجوز في شرب الخمر، وأن روايات أصحابهم وأقوالهم في جواز التقية في شرب الخمر وعدمها مختلفة، فالصدوقان رضوان الله تعالى عليها قالا بالمنع، فعندهما لا تقية في شرب الخمر، ولا في المسح على الخفين، ولا في متعة الحج، كما لا تقية في الدماء، والشيخ وأتباعه قالوا بالجواز عند مخافة القتل، قال الشيخ الشهيد في الذكرى: قال الصدوقان عن العالم عليه السلام: ثلاث لا أتقي فيهن أحداً، شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج. وهو في الكافي والتهذيب بسند صحيح عن زرارة قال: قلت له: أفي مسح الخفين تقية؟ قال: ثلاث لا أتقي فيهن أحداً: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج. وتأوله زرارة بنسبته إلى نفسه عليه السلام، ولم يقل: الواجب عليكم ألا تتقوا فيهن أحداً. وتأوله الشيخ بالتقية لأجل مشقة يسيرة لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال، لما مر من جواز ذلك للتقية[9].

ورووا عن الكاظم عليه السلام أنه قال:

إن التقية تجوز في شرب الخمر[10].

أقول: ولم يقتصر الأمر بالجهر بالمعتقدات الآنفة الذكر التي عرفوا بها دون تقية، بل ذكروا أن أبا جعفر المنصور قال للصادق عليه السلام: يا أبا عبد الله! ما بال الرجل من شيعتكم يستخرج ما في جوفه في مجلس واحد، حتى يعرف مذهبه؟! فقال: ذلك لحلاوة الايمان في صدورهم، من حلاوته يبدونه تبدياً[11].

فهذا القول من خليفة المؤمنين للإمام رحمه الله وعن شيعته، فماذا يقول القوم بعد هذا؟! وكيف يستقيم القول بالتقية مع كل هذا؟!

 

[1] الفوائد الحائرية، للوحيد البهبهاني (353 - 356).

[2] مدارك الأحكام، للعاملي (3/360)، ذخيرة المعاد، للسبزواري (1) ق (2/278)، الحدائق الناضرة، ليوسف البحراني (8/167).

[3] أمالي الصدوق (740)، غنائم الأيام، للميرزا القمي (2/540)، مناهج الأحكام، للميرزا القمي (272)، جواهر الكلام، للجواهري (9/389).

[4] عيون أخبار الرضا (ع)، للصدوق (1/131)، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، لهادي النجفي (4/206)، وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (4/758)، غنائم الأيام، للميرزا القمي (2/540)، مناهج الأحكام، للميرزا القمي/272).

[5] غنائم الأيام، للميرزا القمي (2/540).

[6] ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، للشهيد الأول (3/333)، مدارك الأحكام، لمحمد العاملي (3/ 360 (ش))، الحبل المتين، للبهائي العاملي (229)، حياة ابن أبي عقيل العماني، إعداد مركز المعجم الفقهي (189)، اثنا عشر رسالة، للداماد (2/188)، بحار الأنوار للمجلسي (82/74).

[7] مفتاح الكرامة، للعاملي (7/204 (هـ))، مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي (4/189)، بحار الأنوار للمجلسي (82/81).

[8] مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي (2/259، 5/130)، مدينة المعاجز، لهاشم البحراني (7/677)، بحار الأنوار للمجلسي (78/397)، جامع أحاديث الشيعة، للبروجردي (3/310، 5/453)، معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)، لعلي الكوراني (4/235).

[9] اختيار معرفة الرجال، للطوسي (2/465).

[10] وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي (11/469)، مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي (13/128، 17/68)، بحار الأنوار للمجلسي (47/323)، جامع أحاديث الشيعة، للبروجردي (14/517)، اختيار معرفة الرجال، للطوسي (2/465)، معجم رجال الحديث، للخوئي (15/129).

[11] صفات الشيعة، للصدوق (15)، بحار الأنوار للمجلسي (47/166، 65/64)، مستدرك سفينة البحار، للنمازي (1/205).