التقية عند الأئمة: روايات الشيعة وإشكاليات جوازها حتى في غياب المخالفين
يتناول هذا المقال قضية التقية عند الشيعة، وخاصة الروايات التي استدل بها بعضهم على جواز التقية من قبل الأئمة عليهم السلام حتى في غياب المخالفين. تكشف هذه الروايات عن اختلاف المواقف بين علماء الشيعة أنفسهم، حيث يرى بعضهم أن الأئمة يجوز لهم تقديم إجابات مختلفة لمسائل واحدة لأسباب تتعلق بالتقية، بينما يشدد آخرون على أن التقية محصورة في حالات الضرر أو مواجهة أعداء. يُظهر التحقيق في كتب الشيعة مثل الكافي والتهذيب والبحراني أن هذا الخلاف مستمر، وأن بعض الروايات تُستغل لإضفاء الشرعية على ممارسات قد تثير الالتباس بشأن حقيقة موقف الأئمة وحقائق الدين. يهدف المقال إلى توضيح هذه الروايات، وفحصها نقديًا، مع إبراز التناقضات بين القول بالمجوزات وبين الواقع العملي للروايات الشيعية.
فعن زرارة عن أبي جعفر قال:
سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله! رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه! فقال: يا زرارة! إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم. قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال: فأجابني بمثل جواب أبيه[1].
وعن موسي بن أشيم قال:
كنت عند أبي عبد الله، فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، قال: فدخلني من ذلك ما شاء الله، حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين، فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهة، وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله، فبينا أنا كذلك اذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي. فسكنت نفسي، فعلمت أن ذلك منه تقية[2].
وعن عمر بن رياح أنه سأل الباقر عن مسألة فأجابه فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول.
فقال لأبي جعفر:
هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي. فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية.
فشك في أمره وإمامتة، فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له: محمد بن قيس، فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟! فقال: فعلته للتقية. وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي. فقال محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه. فقال: ما حضر مجلسه في المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت، ولن يحفظ ما أجاب به العام الماضي فيجيب بمثله. فرجع عن إمامته وقال: لا يكون إمام من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله، ولا من يرخي ستره ويغلق بابه ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمال بسببه إلى قول البترية ومال معه نفر يسير[3].
فهذه الرويات وغيرها استند عليها البحراني وغيره في عدم ضرورة وجود أحد من أهل السُنة للقول بالتقية، وهو يدل - كما ذكرنا مراراً - على أن أهل السنة هم الأصل في القول بالتقية لدى القوم، وقد كان هذا الأمر مثار خلاف بين الشيعة أنفسهم.
[1] الكافي للكليني 1/65، الحدائق الناضرة ليوسف البحراني 1/6، وقال: لوكان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد لما هم عليه.
[2] الكافي للكليني 1/265 الاختصاص للمفيد 330 بحار الأنوار للمجلسي 25/332، 47/50.
[3] بحار الأنوار للمجلسي 37/33، 69/178، تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي، لمحمد على الأبطحي 3/464.