لطالما كانت الأمة الإسلامية تواجه محاولات التشكيك في صحة السنة وتشويه علماءها، واستغلال بعض الكتب لترويج معتقدات باطلة. ومن أبرز هذه الحالات ما يتعلق بـ الفخر الرازي وكتبه في الكلام والصفات، التي اتهمه البعض بجهمية وجبرية، وربطوه بالانحراف عن منهج أهل السنة. وقد أورد بعض علماء السنة كبارًا مثل ابن تيمية والذهبي والسبكي ملاحظات نقدية على مناهج الرازي، مبينين إنه قد اتبع مذهب الجهمية في بعض كتبه ولكنه تراجع وتاب عن كثير من المسائل الكلامية واعتنق منهج أهل السنة.

كما نوضح في هذا المقال إن كتاب الرازي وأقواله لا يمثلون أهل السنة والجماعة، وأن بعض ما نُقل عنه من أقوال فيه تشكيك وإرباك للعقول، وقد رد عليه العلماء بكل وضوح، كما سنتناول هذا بالتفصيل مع ذكر الشبهات والرد عليها.

هذا الكتاب ليس معتمد عند السنة بل تبرأنا منه وردينا عليه كما سيأتي.

بالنسبة للرازي فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرد عليه ويبين بإنه كان جهمي جبري ليس من أهل السنة والجماعة يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (16/213-214): " وَهَكَذَا الْجَهْمِيَّة تَرْمِي الصفاتية بِأَنَّهُمْ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمِي الْجَهْمِيَّة وَمُتَأَخَّرِيهِمْ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي الجهمي الْجَبْرِيُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْرُجُ إلَى حَقِيقَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمَعْرُوفَ فِي السِّحْرِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ. مَعَ إنه كَثِيرًا مَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ مُتَّبِعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأهل الْكُتُبِ وَالرِّسَالَةِ. وَيَنْصُرُ الْإسلام وَأهلهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا يُشَكِّكُ أهلهُ وَيُشَكِّكُ غَيْرَ أهلهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ. وَقَدْ يَنْصُرُ غَيْرَ أهلهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّشْكِيكُ وَالْحَيْرَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْجَزْمِ وَالْبَيَانِ ".

ثم إن مما يمنع تكفيره إنه يوجد احتمال توبته وقد نقل بعض أهل العلم بإن الرازي تاب.

مجموع الفتاوى (4/55): " وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ:

إن مِنْهُمْ مَنْ يُصَنِّفُ فِي دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإسلام كَمَا صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابَهُ فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَمَنْفَعَتِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَهَذِهِ رِدَّةٌ عَنْ الْإسلام بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْهُ وَعَادَ إلَى الْإسلام ".

وقال الذهبي عنه ـ وقد ترجم له في الميزان في حرف الفاء باسم الفخر-:

( رأس في الذكاء والعقليات لكنه عري عن الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى)

(ميزان الاعتدال 5/411 ).

ويقول: (وقد بدت من تواليفه بلايا وعظائم، وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر)

وقد اختلف العلماء فيه فبعضهم نسب الكتاب له وبعضهم نفاه عنه. ولكن الأقوى إن الكتاب له وعلى أي حال فهو لا يمثل أهل السنة وقد ردوا علمائنا عليه فمثلاً: ( كتاب انقضاض البازي في انفضاض الرازي ) وكتب غيرها ردوا عليه وكما رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيره حتى من يقرأ عنه يظن إن ابن تيمية رحمه الله قد كفره.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره" أضواء البيان" ما نصه: 

واعلم أيضا إن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل ورجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله.

 وقد قال ذلك في كتابه: 

أقسام اللذات: لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلا، ولا تشفي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: 

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، والنفي:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. اهـ. وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها:

نهاية إقدام العقول عقال **** وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا **** وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا **** سوى إن جمعنا فيه قيل وقالوا

إلى أخر الأبيات. من " أضواء البيان.

غير إن الرازي قلَّتْ ثقته بالعقل الإنساني وأدرك عجزه فأوصى وصية تدل على إنه حسن اعتقاده فقال قبل موته: "لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلاً.. " [راجع فتح الباري 13/350 وإتحاف السادة المتقين للزبيدي 1/174 [ونجـــــد عن السبكي تفاصيل هذه الوصية [راجع طبقات الشافعية 5/33[

وقد أبدى قلة ثقته بالعقل أثناء استعراض أقوال المعتزلة والأشاعرة حول مسألة التحسين والتقبيح العقليين قائلاً: "وأعلم إن هذه المذاهب ظهر في كل واحد منها من المدائح والقبائح، فعند هذا قال أصحاب الحيرة والدهشة:إن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة إلى حيث تزيل الشك وتملأ بقوتها ونورها: العقل. بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض" [راجع المطالب العالية 4/426[

 

وقد نظم بعض الأبيات في وصف حال أهل الكلام بعد إن تاب: 

نهايــــة إقــــــدام العقـــول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضـــلال 
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانــــــا أذى ووبال 
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى إن جمعنا فيه قيل وقالوا

قد اعترف السبكي بتراجع الرازي عن منهج المتكلمين وذكر الحافظ إنه كتب وصية تدل على إنه حسن اعتقاده. ولكن النص كما عن السبكي مخالف لما ذكره الذهبي وابن كثير(قارن بين طبقات الشافعية 5/37 وبين البداية والنهاية 13/56 وسير أعلام النبلاء 21/501 فإن توبة الرازي وتراجعه عن أهل الكلام والمبتدعين إلى منهاج السلف لا يروق للسبكي وكيف لا والسبكي يعتبر الرازي والغزالي من مجددي الإسلام كما في طبقاته 1/202.

الشبهة:

يقول بعضهم إن الفخر الرازي عالم سني ومفسر موثوق، وأن كتبه الكلامية تمثل الفكر السني، وأن الانتقادات عليه مبالغ فيها، وأحيانًا يُتهم بالردود الشديدة على كتبه بأنه كفره.

 

الرد على الشبهة:

كتب الرازي المبكرة تحتوي على منهج كلامي جهمي وجبري، كما أشار ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ولم تمثل أهل السنة.

القرآن والسنة هما المعيار عند أهل السنة، ولم يُحتج بأقوال الرازي الكلامية في المسائل العقدية.

العلماء مثل الذهبي والسبكي أكدوا احتمال توبة الرازي واعتداله في آخر حياته، مما يحسم الشبهة بأن كفره دائم أو أنه يمثل أهل السنة.

الفخر الرازي في مراحله الأخيرة رجع إلى اتباع القرآن في صفات الله، ونصح بترك الطرق الكلامية المربكة.

النتيجة: الرازي عالم في الفقه والتفسير، لكنه مر بمراحل خطأ كلامي مبكر، وقد رد عليه علماء أهل السنة، ومنهجه الكلامي المبكر ليس حجة للسنة والجماعة.