دراسة نقدية في روايات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

تُثار بين الحين والآخر شبهات تتعلّق بمكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ويُستدل لها بروايات منسوبة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، من أشهرها قول: «أنا أم رجالكم لست بأمك».

ويهدف هذا المقال إلى تفكيك الشبهة تفكيكًا علميًا، عبر تتبّع طرق الرواية، وبيان درجتها، ومقارنتها بالنصوص القطعية من القرآن والسنة، مع إبراز الاضطراب المنهجي في الاستدلال بهذه الروايات عند بعض الكتّاب، حين تُقبل في سياق وتُردّ في آخر.

احتج الرافضة برواية مسروق:

«أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد ثنا بنا أبي قماش ثنا بن عائشة ثنا أبو عوانة عن فراس عن عامر عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها «أن امرأة قالت لها: يا أمه فقالت أنا أم رجالكم لست بأمك»

(سنن البيهقي٧٠/٧ ح١٣٢٠٠). ١٦٤٩

وهي رواية صحيح الإسناد ولكنه قول كانت تقوله عائشة في بداية الأمر ثم ثبت عنها القول بخلافه.

قال الشيخ الحويني:

«وله طرقٌ أخرى عن عائشة لا تخلو من مقالٍ.

فأخرج أحمد في (مسنده١٤٦/٦) قال «حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن جابر عن يزيد بن مرة عن لميس أنها قالت: سألتُ عائشة فذكرت حديثًا وفيه قالت: «قالت: امرأةٌ لعائشة: يا أم. فقالت عائشة: إني لست بأمكن، لكني أختُكن» وسنده ضعيفٌ جدا. وجابر هو الجعفي واه. ويزيد بن مرة قال في (التعجيل١١٨٤) «فيه نظر». ولميس يظهر من ترجمتها في (التعجيل١٦٥٢) أنها مجهولة.

وأخرج الدارقطني في (المؤتلف٩٣٦/٢) قال:

 «حدثنا محمد بن مخلد حدثنا عبد الله بن الهيثم العبدي حدثنا أبو قتيبة حدثنا مطر الأعنق حدثتني خرقاء قالت: قلتُ لعائشة: يا أمةُ. قالت: لستُ أم نسائكم، إنما أنا أم الرجال». وسنده ضعيفٌ، وخرقاء هذه لا تعرف. ومطر هو ابن عبد الرحمن

الأعنق قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل٢٨٨/١/٤) عن أبيه «محله الصدقُ».

أضاف الشيخ الحويني: «ثم اعلم أن هذا كان مذهبا لعائشة رضي الله عنها، فأخرج ابن سعد كما في (الدر المنثور١٨٣/٥) أنها قالت: «أنا أم الرجال منكم والنساء».

قلت: وهو الصحيح الذي تدل عليه الآية، فقد قال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) ففلظة المؤمنين تشمل الرجال والنساء قطعا، فقوله (وأزواجه) جمع عائد على (المؤمنين) قال الحافظ في (الفتح١٨/١) «وهو الراجح» وكذلك رجحه القرطبي وعامة المفسرين.

وأمومة أمهات المؤمنين إنما هي أمومة حرمة وتوقير، مع تحريم نكاحهن، ولكن لا تجوز الخلوة بهن كما يخلو الرجل بأمه التي ولدته وبذوات محارمه، والسفر بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع وخالف في السفر بهن ابن خزيمة رحمه الله، فأخرج في (صحيحه٢٥٢٨/٤) قال «حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. وأخرجه أحمد (٣٩١/٦) قال «حدثنا هارون بن معروف.

وأخرجه سعيد بن منصور في (سننه٢٤٩٠) قال ثلاثتهم «ثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرًا حدثه أن الحسن بن علي ابن أبي رافع حدثه عن أبي رافع قال: كنت في بعث مرة وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فاءتني بميمونة فقلت: يا نبي الله! إني في البعث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس تحب ما أحب؟ قلت: بلى يا رسول الله! فقال: اذهب فاءتني بميمونة فذهبت فجئته بها».

وسنده صحيح. والحسن بن علي بن أبي رافع وثقه النسائي وابن حبان. وبوب ابن خزيمة على هذا الحديث بقوله (باب إباحة سفر المرأة مع عبد زوجها أو مولاه إذا كان العبد أو المولى يوثق بدينه وأمانته وإن لم يكن العبد أو المولى بمحرم للمرأة إن كان حكم سائر النساء حكم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا إخال لأن الله عز وجل أخبر أنهن أمهات المؤمنين، فجائز أن يكون العبد والحر محرما لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان سفر ميمونة مع أبي رافع أن ميمونة أم أبي رافع إذ كانت ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم» انتهى.

وما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم أصح. و الله أعلم.

الراجح:

إذن فالمذهب الراجح وهو مذهب عائشة رضي الله عنها كما صح عنها: «أنا أم الرجال منكم والنساء»

(تنبيه الهاجد شرح الحديث رقم٥٢٢)

الشبهة:

الاستدلال بروايات تُنسب إلى عائشة رضي الله عنها تفيد أنها ليست أمًا للنساء، وبناء ذلك على نفي عموم أمومة أمهات المؤمنين.

الرد العلمي على الشبهة

الرد من وجوه:

الآية المحكمة مقدّمة على الروايات المحتملة:

 عموم قوله تعالى ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾ شامل للرجال والنساء، وهو الراجح عند جمهور المفسرين.

تعدّد الطرق لا يعني الصحة:

 كثير من طرق الرواية فيها ضعف أو جهالة، وقد نبّه على ذلك أهل النقد.

ثبوت القول بخلافه عن عائشة رضي الله عنها ثبت عنها قولها: «أنا أم الرجال منكم والنساء»، وهو الموافق للآية.

التمييز بين الأمومة الشرعية والمحرمية:

أمومة أمهات المؤمنين أمومة حرمة وتوقير، لا أمومة نسبية تترتب عليها أحكام الخلوة والسفر.

الاضطراب المنهجي في الاستدلال:

قبول رواية في سياق وردّ نظائرها أو معارضتها للنص القطعي يدل على خلل في المنهج، لا في النص.