مقدمة
تُعد آيات القرآن الكريم منبعًا لا ينضب للمعرفة والهداية، وكل آية تحمل في طياتها أسرارًا وحكمًا بالغة. ومن بين هذه الآيات العظيمة، تبرز آية التطهير في سورة الأحزاب، والتي لطالما كانت محط أنظار العلماء والباحثين على مر العصور. هذه الآية، التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، تحمل في طياتها دلالات عميقة تتعلق بالإرادة الإلهية في تطهير فئة معينة، وهي "أهل البيت".
لقد تباينت الأفهام وتعددت الاجتهادات حول المراد بـ "أهل البيت" في هذه الآية، وحول طبيعة "الرجس" الذي أراد الله إذهابه، وكنه "التطهير" الذي وعد به. وللوقوف على الفهم الصحيح لهذه الآية، لا بد من الرجوع إلى أقوال كبار المفسرين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة كتاب الله. في هذا المقال، سنستعرض تفسيرات الإمام الألوسي في "روح المعاني" والعلامة الشوكاني في "فتح القدير"، لنستلهم من علمهم ونور بصيرتهم ما يعيننا على فهم هذه الآية العظيمة في سياقها القرآني الصحيح، وتفنيد أي شبهات قد تثار حولها.
تفسير الإمام الألوسي لآية التطهير:
يُعد الإمام أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي من أبرز علماء التفسير في العصور المتأخرة، وقد جاء تفسيره "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" ليجمع بين النقل والعقل، ويستوعب مختلف الأقوال والآراء. عند تناوله لآية التطهير، يقدم الألوسي تحليلاً دقيقًا لمعانيها ودلالاتها. يقول الإمام الألوسي في تفسيره: "﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن" [1]. هذا القول من الألوسي يضعنا مباشرة في سياق الآية، حيث يربطها بالأوامر والنواهي التي سبقتها في الآيات الموجهة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم. فالإرادة الإلهية بإذهاب الرجس والتطهير هي تعليل وتوضيح للحكمة من تلك الأوامر والنواهي التي خوطبن بها.
معنى "الرجس" في تفسير الألوسي:
يتعمق الألوسي في معنى كلمة "الرجس"، موضحًا أنها في الأصل تعني "الشيء القذر". ولكن في سياق الآية، يرى أنها أريد بها "الذنب مجازاً" عند كثير من العلماء. ويستعرض الألوسي أقوالًا متعددة لعلماء آخرين في تحديد معنى الرجس، فيذكر: "وقال السدي: الإثم. وقال الزجاج: الفسق وقال ابن زيد: الشيطان، وقال الحسن: الشرك، وقيل: الشك، وقيل: البخل والطمع، وقيل: الأهواء والبدع" [1]. هذا التعدد في الأقوال يدل على سعة المعنى اللغوي للكلمة، وعلى اجتهاد العلماء في تحديد المراد بها في هذا السياق القرآني. ويخلص الألوسي إلى رأي جامع، فيقول: "وقيل: إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف" [1]. هذا التلخيص للألوسي يشير إلى أن الرجس في الآية يشمل كل ما هو قذر معنويًا أو حسيًا، من ذنوب وآثام ونقائص، مع إقراره بوجود تفاوت في قوة الأدلة لبعض هذه الأقوال.
معنى "التطهير" في تفسير الألوسي:
أما عن معنى "التطهير"، فيذكر الألوسي أنه "قيل التحلية بالتقوى". ويوضح المعنى العام للآية بناءً على هذا الفهم: "والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم" [1]. هذا التفسير يربط بين إذهاب الرجس (الذنوب والمعاصي) وبين التطهير (التحلية بالتقوى)، مما يشير إلى عملية تطهير شاملة تشمل التخلي عن المنهيات والتحلي بالمأمورات. ويضيف الألوسي احتمالًا آخر لمعنى التطهير، فيقول: "وجوز أن يراد به الصون، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صوناً بليغاً فيما أمر ونهى جل شأنه" [1]. هذا الفهم يضيف بعدًا وقائيًا للتطهير، حيث لا يقتصر على إزالة القذر الموجود، بل يشمل أيضًا الحماية والصيانة من الوقوع في المعاصي مستقبلًا. وهذا يدل على عمق الإرادة الإلهية في رعاية أهل البيت وعصمتهم من الوقوع في ما يغضب الله.
تفسير العلامة الشوكاني لآية التطهير:
يُعد العلامة محمد بن علي الشوكاني من كبار علماء اليمن، وصاحب التفسير المعروف "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير". يتميز تفسير الشوكاني بأسلوبه الواضح والمباشر، واهتمامه باللغة والسياق القرآني. عند تفسيره لآية التطهير، يربط الشوكاني الآية مباشرة بما سبقها من أوامر ونواهٍ لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشوكاني: "{إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} أي إنما أوصاكنّ الله بما أوصاكنّ من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت وعدم التبرّج، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" [2]. هذا الربط الواضح يؤكد أن الآية جاءت لبيان الحكمة من تلك التوجيهات الإلهية لزوجات النبي، وأن الامتثال لتلك الأوامر والنواهي هو السبيل إلى تحقيق إرادة الله في إذهاب الرجس والتطهير.
معنى "الرجس" في تفسير الشوكاني
أما عن معنى "الرجس"، فيحدده الشوكاني بوضوح: "والمراد بالرجس: الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا" [2]. هذا التعريف للشوكاني يركز على الجانب العملي للرجس، فهو ليس مجرد قذر معنوي عام، بل هو الإثم والذنب الذي ينتج عن مخالفة أوامر الله وارتكاب نواهيه. ويشمل هذا التعريف كل ما لا يرضي الله، مما يؤكد شمولية إرادة التطهير الإلهية لتشمل كل جوانب حياة المخاطبين بالآية.
الشبهة والجواب
تثار أحيانًا بعض الشبهات حول آية التطهير، خاصة فيما يتعلق بمن هم "أهل البيت"، وهل تشمل الآية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أم تقتصر على غيرهن. النص الأصلي الذي تم تحليله يطرح هذه النقطة بوضوح، حيث يقول: "فكلام اهل العلم يبين ان التعليل يتعلق بالاوامر والنواهي في الايات الكريمات المباركات , وان هذه الايات قد نزلت في زوجات النبي صلى الله عليه واله وسلم".
الشبهة مفصلة
تتمثل الشبهة في محاولة إخراج زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من دائرة "أهل البيت" في آية التطهير، أو التقليل من شأن الخطاب الموجه إليهن في سياق الآيات التي تسبق آية التطهير وتليها. ويزعم البعض أن الآية نزلت في فئة أخرى من أهل البيت، وأنها لا تشمل زوجات النبي، وبالتالي فإن الأوامر والنواهي الموجهة إليهن في سورة الأحزاب لا ترتبط بشكل مباشر بإرادة التطهير المذكورة في الآية. هذا الفهم يؤدي إلى فصل الآية عن سياقها القرآني الواضح، ويجعلها معلقة بذاتها دون ارتباط بما قبلها وما بعدها من آيات تخاطب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر.
الجواب المفصل
الجواب على هذه الشبهة يتجلى بوضوح في تفسيرات كبار علماء الأمة، كما هو مبين في أقوال الإمام الألوسي والعلامة الشوكاني. فكلاهما يؤكد أن سياق الآية يربطها بشكل وثيق بالخطاب الموجه لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الألوسي إن الآية "استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن" [1]. هذا يعني أن إرادة الله في إذهاب الرجس والتطهير هي الحكمة والغاية من الأوامر والنواهي التي وجهت إليهن، مثل التقوى، وعدم الخضوع بالقول، وقرارهن في البيوت، وعدم التبرج، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله. فالآية جاءت لتبين أن امتثالهن لهذه الأوامر والنواهي هو الطريق لتحقيق هذا التطهير الإلهي.
ويؤكد الشوكاني هذا المعنى بقوله: "أي إنما أوصاكنّ الله بما أوصاكنّ... ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" [2]. هذا الربط المباشر بين الوصايا الإلهية لزوجات النبي وبين إذهاب الرجس والتطهير لا يدع مجالًا للشك في أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن المقصودات بـ "أهل البيت" في هذا السياق القرآني. فالآيات التي تسبق آية التطهير وتليها كلها تخاطب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السياق هو المفتاح لفهم الآية فهماً صحيحاً.
إن القول بأن الآية لا تشمل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هو قول يفصل الآية عن سياقها، ويؤدي إلى تشتيت المعنى القرآني. فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والسياق القرآني هو من أهم مفاتيح فهم الآيات. وعليه، فإن كلام أهل العلم، ممثلًا في تفسيري الألوسي والشوكاني، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن آية التطهير نزلت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن التعليل فيها يتعلق بالأوامر والنواهي الموجهة إليهن، وأن إرادة الله في تطهيرهن من الرجس هي ثمرة امتثالهن لتلك الأوامر الإلهية.
المصادر
[1] الألوسي، أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسيني. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. الجزء 16، الصفحة 110.
[2] الشوكاني، محمد بن علي. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. الجزء 6، الصفحة 41.