من أبرز المواقف المضيئة في تاريخ الإسلام ما حدث بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عقب معركة الجمل، حيث أظهر علي سماحة الإسلام ورقيّ الأخلاق في تعامله مع أم المؤمنين، فجهّز لها ما تحتاجه من مركب وزاد ومتاع، وأرسل معها من يؤنسها ويحفظها حتى تصل إلى مأمنها، تنفيذًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذا المشهد يبرز عمق الاحترام المتبادل بين الصحابة، ويؤكد أن ما وقع بينهم من خلاف سياسي لم يفسد ما بينهم من مكانة دينية وحقوق أخوّة إيمانية، فبقيت عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وبقي علي منصفًا كريمًا في التعامل معها رضي الله عنهما أجمعين.
البداية والنهاية:
ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الاخيار.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
- خرافة خروج القائم في آخر الزمان |
فقال علي: صدقت والله كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. وسار علي معها مودعا ومشيعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.
قال ابن حجر في فتح الباري:
((وَأَخْرَجَ أَحْمَد وَالْبَزَّار بِسَنَدٍ حَسَن مِنْ حَدِيث أَبِي رَافِع أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب: إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَك وَبَيْنَ عَائِشَة أَمْر، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنهَا)).
حجر في فتح الباري (13/46)
وأخرج الهيثمي في مجمع الزوائد:
[كتاب الفتن، باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما]:
وعن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: ((إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر)) قال: أنا يا رسول الله؟ قال: ((نعم)) قال: أنا أشقاهم يا رسول الله، قال: ((لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها)). رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:
زياد بن أيوب: حدثنا مصعب بن سلام: حدثنا محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه قال: انتهينا إلى علي رضي الله عنه، فذكر عائشة، فقال: ((خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم)). هذا حديث حسن.
ومصعب فصالح لا بأس به. وهذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة مع ما وقع بينهما، فرضي الله عنهما. ولا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورهما يوم الجمل، وما ظنت أن الامر يبلغ ما بلغ. فعن عمارة بن عمير، عمن سمع عائشة: إذا قرأت: ﴿وقرن في بيوتكن﴾ [الاحزاب: 33] بكت حتى تبل خمارها.