أبي بكر عبدالجميل المغربي
بعد:
فإنه ولما كان معتقد الإباضية منبوذا في بقاع الأرض مرفوضا لدى أهل الفطر، عمد أهله إلى نشر معتقدهم الفاسد بإزار سني، لعلهم يجدون قبولا لمنهجهم المنبوذ وعقدهم المرفوض، فوضعوا مذكرة تجمع بين منهج الإباضية وعقيدة الأشعرية في مبحث الصفات، فركبوا على الأشعرية لمَّا توافقوا في تعطيل الإله الحق عن صفاته، ليصلوا إلى قلوب الناس، ولو كانوا يرون سلامة منهجهم لما تنكروا له في نشره.
وقد توصلت بهذه المذكرة من أحد الشيوخ الدعاة إلى السنة حفظه الله، وطلب مني نقدها نقدا موجزا غير مخل، فأجبت طلبه، فأسأل الله لي وله ولوالدينا وجميع المسلمين الأجر والثواب.
ثم أردت بداية أن يكون نقدي للمذكرة عبارة عن شرحها شرحا نقديا كما فعل شيخ الإسلام في الأصفهانية، فأشار عليَّ الشيخ أن ذلك سيطول، وأن أكتفي بذكر المخالفات فيها ونقدها، فأحببت ذلك، وهذا كما فعل شيخ الإسلام في تلبيس الجهمية، وكما فعل في الاستقامة، والله الموفق المعين لكل خير.
وطريقة النقد التي اعتمدتها، أني أنقد ما ذكره هو مجملا بالتفصيل، ثم عند تفصيله للمجمل فإما أن أقف على بعض عباراته، أو أعرض عنها لكونها داخلة في المنقود الأول.
وبما أن مؤلف المذكرة مالكي وأنا على مذهب الإمام مالك في الأصول والفروع أحب أن أبدأ ردي على مذكرته بنقل كلام الإمام مالك رحمه الله في مسائل الإعتقاد:
1: أخرج الهروي عن الشافعي قال: (سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقال: "محال أن يُظَنَّ بالنبي r أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد"، والتوحيد ما قاله النبي r: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، فما عُصم به المال والدم حقيقة التوحيد).
2: أخرج الدارقطني، والآجري، والبيهقي، وابن عبد البر، عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات فقالوا: "أمروها كما جاءت"([1])
3: أخرج أبو نعيم في "الحلية"([2]) والصابوني في "عقيدة السلف أصحاب" الحديث"([3]) من طريق جعفر بن عبد الله عن مالك، وابن عبد البر في "التمهيد"([4]) من طريق عبد الله بن نافع عن مالك، والبيهقي في "الأسماء والصفات"([5]) من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح"([6]) "إسناده جيد" وصححه الذهبي في "العلو" (ص 103) (جَاءَ رجل إِلَى مَالك فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيفَ اسْتَوَى؟؟ قَالَ فَمَا وجد مالك من شَيْء ما وجده من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت في يده حتى علاه الرحضاء - يَعْنِي الْعرق – ثم رفع رأسه ورمى العود وَقَالَ: الكيف منه غير مَعْقُول والاستواء مِنْهُ غير مَجْهُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة وَأظنك صاحب بدعة، وأُمر به فأُخرج).
4: أخرج أبو داوود([7]) وعبد الله بن أحمد([8]) وابن عبد البر([9]) والقاضي عياض([10]) والمكي ابن أبي طالب فيما جمعه من تفسير مالك نفسه، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك: "الله في السماء وعلمه في كل مكان".
وغير ذلك من نصوص ثابتة عن الإمام مالك لا يرضاها هذا المالكي عقيدة له ولا دينا.
عنوان المذكرة: تقريب العقائد السنية([11])، ومن قرأها يرى أنها تقرب عقائد الفلاسفة وأهل الكلام وتُبعّد عن السنة وكتاب الله، ولذا سميت الرد بـ "الرجوع إلى السنة" وذلك يكون بالاعتماد على الوحيين دون غيرهما في العقيدة، والنجاة من البدعة العقائدية كبدع الفلاسفة وأهل الكلام.
قال صاحب المذكرة "تقريب العقائد السنية": في مقدمة خطبته:
فيجب على كل من بلغ عاقلاً سواء كان ذكراً أو أنثى وسواء كان حراً أو رقيقاً أن يعرف الصفات الواجبة لله تعالى والصفات المستحيلة عليه تعالى والصفات الجائزة عليه تعالى.
فهذا التقسيم قد ينخدع به الكثيرون، خصوصا من لم يكن عارفا بمنهج الأشاعرة في بناء معتقدهم، فالأشاعرة لا يعتمدون في بناء أصول الاعتقاد عندهم سواء في باب الصفات أو غيرها إلا على علم الكلام المركب من أربع مقدمات:
اثبات وجود العرض، اثبات حدوث الأعراض، اثبات أن الأجسام لا تنفك عن هذه الأعراض ولا تسبقها، وإثبات أن ما لا يخلو من الحوادث ولا يسبقها فهو محدث.
فإنه يمكنك أن تقول بأن الصفات التي وصفوها بالوجوب في حق الله تعالى مبنية على تلكم المقدمات الكلامية المبتدعة.
والصفات الواجبة عندهم هي الصفات الخمسة السلبية([12]): القدم، البقاء، المخالفة للحوادث، الوحدانية، القيام بالنفس.
ولاحظ كيف أنهم لم يذكروا بينونته من خلقه من جنس تلك الصفات، رغم مساوتها لها، فالأشاعرة لا يرون بينونة الله عن خلقه من الصفات الواجبة، ويلزم من عدم إداخالهم البينونة في الصفات الوجبة إسقاطَ صفتين واجبتين: القيام بالنفس، والمخالفة للحوادث، فإن قولهم: إن الله قائم بنفسه، معناه: أنه ليس بعرض، لأن الأعراض تقوم بغيرها لا بنفسها، وعلى هذا لا يكون I مخالفا للحوادث، فكل الذوات الحادثة قائمة بنفسها، وهذه الذوات الحادثة كلها غير بائنة عن هذا العالم، ولكي يعملوا بأصلهم "مخالفة الحوادث" لابد أن يقال: إن الله عز وجل بائن عن العالم، فبذلك يتميز عن الحوادث، فإنه لا يوجد حادث واحد قائم بنفسه بائنا عن العالم، فيتميز الله عز وجل بهذه المخالفة فيكون هو القائم الوحيد بنفسه البائن عن العالم، وهم لا يلتزمون بهذا، ومن سلك منهجا غير كتاب الله غرق في المتناقضات.
ولما لم يجعلوا من صفات الله الواجبة البينونة وقعوا في تناقض آخر، فقالوا: إنه بتلك الصفات السلبية الواجبة، فهو واجب الوجود، أي وجوده واجب ضرورة، ثم وصفوه بصفات من كان ممتنع الوجود، بل وجوده من أمحل المحال، فقالوا: وهو لا داخل هذا العالم المحدود، ولا خارجه الذي هو غير محدود، ولا هو فوق العالم، ولا تحته، ولا يمينه، ولا شماله، وهذه صفات ممتنع الوجود بالإجماع، فإنه عندما نقول: "لا داخل العالم" فالمعنى نفي كون الإله داخل العالم، وبعد نفي كونه داخل العالم، لا يبقى إلا احتمال كونه خارجا عنه، فنقول: "ولا خارج العالم"، فيُنفى وجوده I، ولتأكيد نفي وجوده نقول: "لا فوق العالم" أي بعد أن نفينا وجوده داخل العالم وخارجه، ننفي أن يكون موجودا فوق العالم، وهكذا تستمر بالنفي إلى ألا يبقى لك إلا العالم المشاهد هذا، فتُترجم ما وصلت إليه بقولك: "لا إله والحياة مادة"، فمن كان موصوفا بهذه الصفات المجتمعة فإنه عدم ممتنع الوجود بإجماع العقلاء كلهم حتى من الأشاعرة والإباضية إلا من كابر منهم.
ومعلوم أنه ليس في الوجود إلا الإله والكون بما فيه، فإن نفينا وجود الإله داخل الكون وخارجه فهذا نفي للإله، لأنه ليس ثَمَّ إلا الإله والكون.
وحاول بعضهم إعمال بعض الاصطلاحات المنطقية في أن الكليات موجودة ولا يشار إليها في جهة، وأنساهم الشيطان بأن الكليات لا وجود لها إلا في الأذهان، وكذلك معبودهم الموصوف بذلك.
وأما قولهم بوجوب مخالفة الحوادث، والتي يزعمون أنها السبب في قولهم الفاسد ذاك، فإنا نسألهم سؤالا، فنقول: عندما نصف العدم بأنه لا فوق الشيء، ولا داخله، ولا يمينه، ولا يساره، ولا فوقه، ولا تحته، فهل نكون قد وصنا العدم بصفات واجب الوجود؟؟ وعندما نصف الإله بها ألسنا نكون قد وصنا واجب الوجود بصفات العدم؟؟ فمَن مِن العقلاء يخرج من هذا التناقض؟؟.
وإن تعجب فعجب قولهم: إن الله يُرى يوم القيامة، ويراه المؤمنون، لكن لا أمامهم ولا خلفهم ولا فوقهم ولا تحتهم ولا يمينهم ولا شمالهم لكنهم يرونه، فأضحكوا عليهم الصبية.
فلو أخذنا هذه القضية، وهي: أن الله يُرى يوم القيامة، ثم نقول: إذا رفع المؤمنون أبصارهم هل يرون الله؟؟ قالوا: لا، وإذا أنزلوها يرونه؟؟، قالوا: لا، وإن التفتوا يمينا وشمالا؟؟ قالوا: لا، وأمامهم وخلفهم؟؟ قالوا: لا، وبعد هذا النفي يقولون: سترى الله يوم القيامة!!!.
أيضا من فساد مذهبهم في هذا – أي الصفات الواجبة- أنهم إنما يريدون بها اثبات الوحدانية لله في الربوبية فقط وليس في الألوهية، فمرادهم بـ"الوحدانية" أي اثبات صانع واحد لا صانع معه، وهذا ما أداهم إليه ما يسمونه بدليل التمانع، ومن ذلك قولهم في شرح الصفة السلبية "الوحدانية":
"صانع الْعالم وَاحِد لَا شريك لَهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَهُ صانعان أَو أَكثر لوقع بَينهمَا تمانع وتدافع وَذَلِكَ خفض إِلَى الْفساد وَيُؤَدِّي إِلَى عجز أَحدهمَا وَالْعَاجِز لَا يصلح أَن يكون إِلَهًا فَإِذا تعذر إِثْبَات صانعين كَانَ وَاحِدًا ضَرُورَة" من كتاب أصول الدين للغرنوي الحنفي.
([1]) الدارقطني في "الصفات ص75" والآجري في "الشريعة ص314" والبيهقي في "الاعتقاد ص118" وابن عبد البر في "التمهيد 7/ 149"
([2]) "الحلية" (ج6 ص325-326)
([3]) "عقيدة السلف" (ص17-18)
([4]) "التمهيد" (ج7 ص151)
([5]) "الأسماء والصفات" (ص407)
([6]) "فتح الباري" (ج13 ص406-407)
([7]) "مسائل الإمام أحمد ص263"
([8]) "السنة ص11 بالطبعة القديمة"
([9]) "التمهيد ج7 ص138"
([10]) "ترتيب المدارك ج2 ص43"
([11]) مؤلفها هو: محمد عليش المالكي، لم يأت فيها بجديد غير أنه اختصر شرح ميارة على مقدمة ابن عاشر
([12]) ومجموع الصفات عندهم فيه خلاف بينهم