قال شارح نظم ابن عاشر الأشعريُّ محمد بن أحمد بن محمد الفاسي المالكي الشهير بميارة في شرحه للصفات الواجبة:

"الوحدانية أي لا ثاني له تعالى في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله".

فلم يذكر عبوديته وألوهيته، وذلك أنها ليست من التوحيد عندهم، فمن أقر بأولئك الثلاثة عندهم ودعا غير الله أو استغاث بغير الله أو ذبح لغير الله، فلا يُعدُّ عندهم من المشركين، وقد وصفهم ابن حزم في هذا بصفات الكفار في "الفصل في الملل والنحل" عندما عرض قولهم بأن السجود لغير الله من الشمس والشجر والحجر ليس بشرك ولا كُفر لكنه علامة عليه.

وبسبب ضلالهم في هذا الباب لم يُمكنهم الرد على المشركين بالله في ألوهيته، وإذا قرأت كتاب الشهرستاني "المناظرات في الملل والنحل" حيث عقد مناظرة بين الموحدين والمشركين، فقال:

"اتخاذ الرسل وسائط أولى من اتخاذ غيرهم من تلك الروحانيات التي عند النصارى".

فلم يتميز بهذا القول بين الموحدين والمشركين.   

ومن ضلالهم في هذا، أن هذه الصفات الخمسة يرون أنها غير ثابتة لله عز وجل، ولذلك يسمونها بالسلبية، فهم إنما يُثبتون له نقيضها منفيا، فيقولون في القدم أي ليس له ابتداء، وفي البقاء نفي الانتهاء وفي القيام بالنفس نفي الافتقار إلى مخصص ومحل وهكذا.

وهذا من فساد هذا الأصل، فتلك الصفات السلبية لا تتضمن أمرا ثبوتيا لله عز وجل بمعنى أنهم يمدحونه بالنفي دون اثبات أمر وجوديٍّ لله تعالى كما مضى في تعريفنا للصفات السلبية الخمسة، وهذا معلوم عند العقلاء أنه ذم وليس مدحا، فلو قال قائل لملك من ملوك الدنيا: (لست بمجنون ولا زبال ولا ابن سوء ...) لكان ذاما له، فكيف إن قال له: ولا أثبت لك شيئا وجوديا مما نفيته عنك!!!.

وهذه قاعدة لابد من التنبه لها وهي:

"النفي المحض لا مدح فيه بل هو ذم"، و"النفي المفصل لا مدح فيه بل هو ذم". فيُعلم أن ما جعلوه صفات واجبة فهي صفات ذم يوصف بها ممتنع الوجود.

ثم إن تلك الصفات السلبية لواجب الوجود يتصف بها المُحدث أيضا، فكما أن الله عندهم موصوف بـ"القدم" كصفة واجب الوجود، فإن الله عز وجل وصف القمر بذلك فقال: "حتى عاد كالعرجون القديم" ووصف الضلال بالقدم فقال: "إنك لفي ضلالك القديم" ووصف الآباء والأجداد بالقدم: "أنتم وآباءكم الأقدمون". وأيضا وصفوه بـ"البقاء" على أنها من صفات واجب الوجود، ووصف الله غيره بالبقاء، فوصف ذرية نوح بذلك فقال: "وجعلنا ذريته هم الباقين" ووصف نعيم الجنة وملك الله وغيره بالبقاء فقال: "ما عندكم ينفد وما عند الله باق"، ومن جهل المصنف بكتاب الله تعالى أنه جعل هذه الآية دليلا على صفة البقاء لله لا للمخلوق، مع أنه تعالى قال: "ما عند الله" وهذا حال من يُبعد نفسه عن عقيدة سلف الأمة الصالح، وأيضا وصفوا الله بـ"الغنى" كصفة واجب الوجود، ووصَف الله عز وجل المخلوق أيضا بنفس الصفة، وهكذا، فيكون الله عز وجل وصف المخلوقات بصفات واجب الوجود وهي أجسام، فعلى هذا لا يمنع إضافة صفة لله على أنها واجبة له مع اتصاف الأجسام بها، وهم يقرون أنه وإن كان المخلوق موصوفا بها كما أن الله عز وجل موصوف بها إلا أن بينهما فرقا كبيرا، فدل على أنه لا يمنع وصف الله بصفاته الواجبة له لمجرد كون الأجسام موصوفة بها، فهلاّ اطردوا بذلك في جميع الصفات فيثبتون لله ما أثبته لنفسه وهو كائن في المخلوق مع نفي المماثلة في الكيفية والقدر الفارق!!!.

فإن قالوا: لا نعقل من الموصوف بتلك الصفات (اليد الوجه العينان الفوقية..) إلا الأجسام، فإنه يُقال لهم: ولا نعقل من الموصوف بصفات القدم والبقاء والغنى إلا الأجسام، فإن الأجسام موصوفة في كتاب الله بها.

فإن قيل: قدم الله وبقاءه وغناه ليس من قبيل الجسمية، فإنه لا يُعقل من هذه الصفات المضافة إلى المخلوق لزومها لذواتهم بل إنها تنفك عنهم وجوبا، فما وصفه الله بالقدم مر عليه زمان لم يكن موجودا، وما وصفه بالبقاء سيمر عليه زمان فينعدم أو يتجدد، وما وصفه الله بالغنى تمر عليه أحوال يكون مفتقرا لغيره، فلما تبين صحة انفكاكها عن ذواتهم وصفناهم بالجسمية، ولما لم يصح ذلك في ذات الله لم يُوصف بالجسمية،

قلنا: نستعمل معكم نفس مقدماتكم فنقول: لما كانت اليدان والعينان والوجه... وغيرها من الصفات الخبرية يصح انفكاكها عن ذوات المخلوقات سميناها أجساما، ولا يصح انفكاكها عن ذات الله تعالى فلم يصح تسميته تعالى بالجسم لمجرد إضافتها لله عز وجل، فإن الأجسام تكون مركبة من تلك الصفات، وتكون تلك الصفات فيها كأجزاء لها يصح انفكاكها عنها، فمن لم تكن فيه تلك الصفات يصح انفكاكها عنه لم يكن جسما على مقدماتهم، والله عز وجل لا يصح انفكاك تلك الصفات عن ذاته.

أما مراد صاحب المذكرة بالصفات المستحيلة، فهي نقيض الصفات السلبية الخمسة، ومن صفات واجب الوجود المستحيلة: اتصافه بالعلو عز وجل، حيث يزعمون أن الله عز وجل وصف نفسه بالمستحيل في آيات العلو والفوقية والاستواء، والمسلمون يقولون: يستحيل لله أن يضيف لنفسه ما كان من المستحيل اتصافه به لا حقيقة ولا مجازا، فلا يجوز أن يُضاف لله عز وجل صفة الأكل والشرب والنوم والتعب والأبوة وغيرها لكونها من المستحيلات في حقه، ولم نر في كتاب الله صفة مستحيلة أضافها الله لنفسه.

وفي مقابل ذلك نرى أنه أثبت لنفسه العلو بدلالات أوضح من النهار.

فجعلوا ما وصف الله به نفسه بالآيات القاطعة ووصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وخير القرون من بعدهم من المستحيل في حقه، ثم وصفوه بما هو مستحيل عند جميع الأحياء، وهو جمع المتناقضين، ومعلوم عند المناطقة أن الجمع بين المتناقضين من المفرد الكلي الذي لا وجود لأفراده خارج الذهن، وهذا يُقرره الأشاعرة في تدريسهم للمنطق كما فعل القويسني في شرحه على السلم المنورق، ولكنهم يقررون نقيضه في العقيدة، فيقولون: إن الله عز وجل لا يوصف بحركة ولا سكون، وهذا جمع بين متناقضين فإن الذات إن كانت موجودة حيّة كانت موصوفة بحركة أو سكون، وكانت موصوفة بالفوقية أو التحتية وبالكبر أو الصغر، لكن الأشاعرة لا يصفون الله عز وجل بشيء من هذا، حتى قال الغزالي في المستصفى: (إن الله ليس أكبر من العرش ولا أصغر منه ولا مساو له) وهل بعد هذا الكفر وهو القول بأن الله ليس أكبر من العرش كفرٌ؟؟. ولا نُحيل إلى ميِّت فإن صاحب المذكرة يقول: (كون الجسم مالئاً قدره من الفراغ، وكونه متحركاً أو ساكناً، وكونه متلوناً بلون من الألوان، وكونه صغيراً أو كبيراً).  فجعل وصف الشيء بإحدى تلك الصفات دليلا على جسميته، ومعلوم أن الله ليس بجسم، فبالتالي لا يوصف بشيء منها، ومن ذلك الحركة والكبر، وقال في معرض كلامه عن الصفات المستحيلة (أو موصوفاً بالكبر أو بالصغر)، ونحن نسأل الأشاعرة، هل لله عز وجل ذات؟؟ فإن قيل: "نعم" قلنا: وهذا الكون له ذات أيضا فهو قائم بنفسه وليس عرضا، وهنا عندنا ذاتان، ذات الله عز وجل وذات الكون، ولابد أن يكون أحدهما أكبر من الآخر،

ونقول لهم أيضا: كان الله عز وجل ولم يكن معه شيء، ثم خلق الكون، فإما أن يَكون قد خلقه مساويا له عز وجل وهذا كفر، أو يخلقه أكبر منه وهذا كفر، أو يخلقه أصغر منه وهذا توحيد ويُسميه المصنف تجسيما،

وهذا من ضلال وتناقض الأشاعرة والمتكلمين عموما، والذي أداهم إلى مثل هذا التناقض والضلال، أنهم أثبتوا وجود الإله بعد إثباتهم للمخلوق وصفاته، فقالوا: ينبغي عن الإله أن يكون مخالفا لما عليه المخلوق، والمخلوقات من صفاتها الكبر، فعندنا مخلوق ذاته أكبر من مخلوق، فإن قلنا ذات الله أكبر من ذات العالم كنا قد جسمناه، فليس عندهم أن الله عز وجل أكبر من شيء، وهذا ما يُسمى عندهم بدليل الحدوث وقد أخذوه من المعتزلة كما أخذوا عنهم باقي القواعد، قال ابن رشد: (وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشاعرة)([1])، وهذا حال من اتبع سبيل من أعرض عن شريعة الله عز وجل واتبع طريقة الذين لا يعلمون من أهل الكلام والفلاسفة، وقد قال الله عز وجل لنبيه: (وكذلك جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون)، وقطعا سبيل الفلاسفة وأهل الكلام سبيلُ من لا يعلم، وسبيل الكتاب والسنة سبيل الشريعة، فالحمد لله على نعمة التوفيق للسنة.

ومنهم مَن إذا جاء إلى صفات المعنى:

السمع والبصر إلى آخرها قال: لا نعقل من هذه الصفات إلا الأعراض، ولا نعقل ذاتا تقوم بها الأعراض إلا الأجسام، فنفوا عن الله ذلك، وهؤلاء هم أسياد الأشاعرة من المعتزلة والجهمية الذين قعَّدوا لهم قاعدة "برهان الحدوث" وهكذا كان تعاملهم مع جميع الصفات الأخرى كالفعلية والخبرية.

وشبهتهم في ذلك كله ما يُسمونه نفي الحوادث عن الله

ويحسن بنا الكلام عن قاعدتهم في نفي الحوادث عن الله لنبين سليمها من فاسدها، وذلك أنهم يعدون من الصفات المستحيلة على الله عز وجل كما سبق، اتصافه بالحوادث كما يعبرون، لكنهم يُجمِلون في الحوادث ولا يُفصلون مع أنها على أربعة أقسام، ثلاثة منها يصح نفيها عن الله عز وجل والرابعة لا ينفيها إلا معطل جهمي:

إنْ أرادوا بالحوادث الأمراض والنوم والتعب وعموم النقائص فهذا حق ولا ينازعهم فيه مؤمن بالله.

إن أرادوا بالحوادث نفي حلول المخلوقات بذاته فهذا حق، فذات الله تعالى مباينة لخلقه فلا هو حالٌّ في خلقه ولا هم حالّون فيه، ولا ينازعهم في هذا مؤمن بالله.

إن أرادوا بالحوادث حدوث صفة جديدة لله لم يكن متصفا بأصلها عز وجل فهذا حق، ولا ينازعهم في هذا مؤمن بالله.

وإن أرادوا بالحوادث نفي عموم صفات الله كالمعتزلة وغلاة الجهمية أو نفي الصفات الفعلية والذاتية كما عند الكلابية وأتباعهم من الأشاعرة والماتريدية، فهذا باطل وينازعهم فيه كل مؤمن بالله.

وقد قال الرازي في المطالب العالية مؤكدا لهذا المعنى مع كونه من أئمة الأشاعرة المتأخرين: (هل يُعقل أن يكون –الله- محلا للحوادث؟؟) ثم أجاب بقوله: (قالوا: -الأشاعرة- إن هذا القول لم يقل به أحد إلا الكرامية، وأنا –الرازي- أقول: إن هذا القول قد أقر به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الأشعرية، فإنهم يدعون الفرار من هذا القول وهو لازم لهم.........فيثبت بهذا أن القول بحدوث الصفات في ذات الله قول قال به جميع الفرق)([2]).

ولما رأى أن هذا هو الحق الذي لا محيص عنه سلم من تعطيل الفلاسفة لله عز وجل في بعض الصفات الفعلية ككلامه عز وجل، وقد نقل عنه ابن حجر كلامه في المطالب العالية فقال:

(وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا وأطال في تقرير ذلك)([3])

وما قاله حق فإن نفي هذا النوع مما يسمونه حوادث يؤدي إلى أمور كفرية والعياذ بالله مما صار إليه الأشاعرة والمعتزلة من إنكار صفات الله الفعلية كالخلق والرزق والإحياء والإماتة فلم يكن الله عندهم فاعلا بأي وجه، وذلك كله عندهم راجع للقدرة الصلوحية والتنجيزية وهذا ما أضحكوا به عليهم الصبيان، كما يلزم المصنف والأشاعرة أن يُكفروا الرازي لأنه وصف واجب الوجود بصفة الحادث.   

ثم إن برهان الحدوث –كما يسمونه" الذي أثبتوا به الصانع بتلك الصفات التي زعموا أنها صفات واجب الوجود ونفوا به عن الله عز وجل صفاته لأن برهانهم ذاك حكم عليها بالمحال، فإنه باطل في أصله من وجوه كثيرة منها:

أنه بدعة فلسفية لم يعرفها الرسل ولا نُقَّال الدين عنهم من أصحابهم وحوارييهم ونُقباءهم، فلا في كتاب الله المصون ولا الكتب المحرفة أن رسولا أثبت للناس وجود الخالق عن طريق الجوهر الفرد والأعراض والحوادث، وإنما الموجود هو إثبات الله لهم بصفاته، فكم أثبتوا لهم الإله بدليل صفاته الفعلية من الخلق والرزق والتدبير، وكم أثبتوا الإله بصفاته المعنوية الفعلية من العلم والرحمة والسمع والبصر والقدرة، وكم أثبتوا لهم الإله موصوفا بصفاته الذاتية من العلو والفوقية واليدين والوجه والعينين.

أن هذا الأصل لم يُظهره إلا أفسق الناس في زمانه وهو الجعد، ثم شهَّره أبو هذيل العلاف وأخذه الأشاعرة عنه، ولو كان هذا الأصل خيرا لسبقنا إليه الصحابة لقوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) فهل يُعقل أن يكون أصل الخيرات وهو اثبات الصانع بالبرهان الوحيد يسبق فيه الجعد والجهم وأبو هذيل أبا بكر وعمر وعثمان؟؟!!.

أن السلف الصالح كلهم والأئمة الأربعة وأرباب الحديث تواتر عنهم ذم أهل الكلام المرغِّبين عن الوحيين، المحييين لسنة أبالسة الفلاسفة. ولو كان هذا البرهان السفسطائي خيرا، لما سفهه السلف الصالح والأئمة. واعترف أئمة المعتزلة والأشاعرة أن السلف الصالح ذموا دليل الحوادث([4])، منهم: البيهقي والغزالي والخطابي وغيرهم.

أن برهان الأعراض والحوادث صعب جدا عسير على كثير من طلبة العلم والعلماء فضلا على غيرهم، فإن أمة محمد r تجهل الجواهر الفردة والأعراض، وأن الأعراض تقوم بتلك الجواهر، وأن تلك الجواهر لا يصح تجزءها ولو فَرَضًا، وتلك الأعراض صفاتها كيت وكيت، ثم يُقال: إن هذا البرهان الوعر العسير، به يُعرف الإله بصفاته الجائزة والواجبة والمستحيلة، ويه يُثبت وجوده، ومن زلَّ في هذين كان كافرا، وحتى ينجو من الكفر عليه تعلم هذا البرهان الذي يجهله كبار النظار وحذاق الأشاعرة والمعتزلة.

أن هذا البرهان ظني غير قطعي، والأشاعرة وجميع المتكلمين لم يُقيموا عليه بينة ولن يُقيموها، فعلى المتكلمين أن يُثبتوا أولا وجود الجوهر الفرد خارج أذهانهم، وأن يُثبتوا بالبراهين وجود الأعراض علما أن مِن المعتزلة من يُنكرها كالأصم، وعلى الذين يرون ثبوت الأعراض أن يُقيموا البراهين القطعية في كيفية ثبوتها، علما أنهم افترقوا في هذا فرقا، ثم عليهم أن يٌقيموا البراهين في اثبات حدوث الأعراض وهل هو عام أم مُقيد بالمشاهد فقط، وبعد ذلك عليهم أن يُبرهنوا هل هذه الأعراض تقوم بالجوهر أو أنه عار عنها، وبعد هذا السجال الطويل والعريض يتوصل الأشعري إلى أن لهذا الكون صانعا له صفات واجبة وأخرى جائزة. ولا يخفى على العاقل سخافة هذا.

وأيضا على الأشاعرة بوجه خاص أن يُبرهنوا على سفسطة قولهم في الأعراض بأنها التي لا تبقى في زمانين، والرد على البشرية كلها والعقلاء كلهم، ناهيك عما يلزمهم من هذا القول من كفريات، منهم من التزم بها، ومنهم من فر منها إلى كفر آخر. وذلك مثل قولهم في النبوة إنها عرض، فبالتالي تزول عن أهلها ولا تبقى زمانين، فالأنبياء والرسل ليسوا اليوم أنبياء ولا رسلا، ومن فر من هذا الكفر، قال: الأنبياء هم أحياء الآن في قبورهم حياة حقيقية.

هذا البرهان الذي يتوقف إثبات وجود الله بصفاته عليه، هو برهان عقلي محض، لا شاهد له من النقل، بمعنى آخر أن النقل قصَّر في إثبات ما يجب لله وما لا يجب له، بينما عقل الأشاعرة أمكنه ذلك بفضل هذا البرهان المبتدَع،        

وقد حاول هؤلاء المتكلمون الاعتماد على آية الشورى في تقرير تعطيلهم لله تعالى، وهي قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فظنوها دليلا لهم على التعطيل لأن إثبات صفة لله قد أضيفت لمخلوق فيه مماثلة بينهما، وهذا جهل منهم، فإن النفي هنا للمثلية إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى أو في الكيف أو في كل ذلك، وفي قوله تعالى: (وهو السميع البصير)، وقوله في الإنسان: (فجعلناه سميعا بصيرا) وقعت المماثلة بين الخالق والمخلوق في اللفظ، فدل أنه عز وجل لم يرد بنفي المماثلةِ المماثلةَ في اللفظ، وإن رجعنا إلى معنى السميع والبصير المضافان إلى الله عز وجل وإلى المخلوق، وجدنا لهما نفس المعنى وهو إدراك المسموعات والمُبصرات، فدل أن المراد بنفي المماثلة في الآية لا يشمل اللفظ ولا مدلوله، فلم يبق إلا نفي المماثلة في الكيف بنص الآية، فكل صفة أضافها الله عز وجل لنفسه وأضافها لخلقه أثبتناها له بلفظها ومدلولها ونفينا المماثلة بينه وبين خلقه في كيفيتها.

ونختم هذا ببيان ضلال المصنف في كلامه ذلك فنقول:

وصْف الله سبحانه وتعالى بما يجب له وما لا يجب له راجع له عز وجل، وما أقبحها من جرأة أن يُنصب الواحد نفسه منصب المبيِّن لله عز وجل ما يجب له، وما يجوز له، وما لا يجوز له، فيقول بأنه يجب له عشرون صفة، ويستحيل عليه عشرون ويجوز له عشرة، وإن سألنا أين أوجبها الله عز وجل؟؟ لم يكن لهم إلا الاعتماد على كلامهم وعقلهم القاصر، وعندما نرجع إلى الله عز وجل وإلى المُبَلِّغ عنه من الرسل صلوات ربي عليهم، نجد أن ما أثبته الأشاعرة لله أنه واجب فهو محال في حقه، وما قالوا فيه إنه محال، قد أثبته الله لنفسه وكذا المبلغين عنه، فما أعظمها من جرأة.

أن اعتمادهم في إثبات ما يجب لله وما لا يجب على العقل دون النقل، واختلفوا في صفتَي السمع والبصر هل ثابتة بالعقل أم بالنقل، ولذلك ترى أن المصنف إنما أثبت هذه الصفات كلها عقلا فقط، كقوله: فإن لم نُثبت له كذا لزمه كذا، وهكذا طريقتهم، بينما الله عز وجل قد أمرنا باتباع الوحيين دون غيرهما، (لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ) ولا شك أن من أثبت لله عز وجل ما لم يثُبته لنفسه أو يُثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن نفى عن الله عز وجل ما لم ينفه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو متقدم بين يدي الله ورسوله، والأشاعرة لا يُمكنهم إثبات صفة واحدة لله تعالى نقلا، فلو قالوا: نُثبت له صفات المعاني السبع نقلا، قلنا: شملكم قوله تعالى في اليهود: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، فإن الله عز وجل قد أضاف لنفسه صفة الرحمة والاستواء والمجيء والإحياء والإماتة والخلق والتدبير والرزق، فما لكم لا تؤمنون بها؟؟ فإن قالوا يلزم من إثباتها تشبيها، قلنا: وكذلك الصفات السبع، فأن قالوا: بين الصفات السبع والأخرى فرق، قلنا: هذا الفرق أدركتموه بعقولكم أو فرق الله بينها في كتابه؟؟ فإن قالوا بالأول رجعوا إلى أنهم يُثبتون لله ما يليق بعقولهم، وإن قالوا بالثاني فليبينوا لنا أين ذلك التفريق في كتابه، وأنى لهم ذلك.

مرادهم بواجب الوجود: تعطيل الله عز وجل عن صفاته وأسمائه، فلو أرادوا بواجب الوجود المعنى الشرعي لكان خيرا لهم، لكنهم أرادوا به المعنى الفلسفي الكلامي.

لفظ واجب الوجود فيه إجمال، فإنه إن أريد بواجب الوجود القائم بنفسه، والموجود بنفسه، فتلك الصفات كلها ليست واجبة وإنما هي صفة واجب الوجود، إذ لا يُعقل ويُتصور ذاتا موجودة خارج الذهن من غير صفاتها، فإنه إن قيل: إن الله واجب الوجود بمعنى أنه قائم بنفسه موجود بنفسه، كان المراد ذاته العلية المتصفة بالوجه واليدين والسمع والبصر والحياة والكلام وجميع صفاتها.

تفريق المصنف والأشاعرة عموما بين الصفات السلبية وصفات المعاني، هو تفريق ذهني لا وجود له أو لمثله خارج الذهن.

أن إثباتهم للصفات السلبية من غير إثبات أمر وجودي هو قول باطل وتطاول على ذات الله عز وجل. فإنا إن أثبتنا له عز وجل ما يُسمونه صفة السلبية أثبتنا له نقيضها كصفة ثبوتية له عز وجل، والسلب إنما جاء من كلام أهل الكلام وهم لا علم له بدين الله، فإن هم نفوا عن الله عدم الابتداء أثبتنا لجلاله صفة الأزلية، وإن وصفوه بعدم الفناء أثبتنا لجلاله الديمومة والبقاء، وهكذا نُجل الله عز وجل من أن يتصف بنفي ولا يتصف بكمال ضده. ونقول لهم: الله عز وجل يقول: (ويبقى وجه ربك) وتفسيركم لوجه الله عز وجل أي ذاته، فالمعنى ويبقى الله عز وجل فيكون الله قد أثبت لنفسه أمرا وجوديا وهو البقاء، فالله سبحانه وتعالى جعل البقاء صفة ثابتة، وأنتم جعلتموها صفة منفية سلبية. فإن لم يكن لكلام الله عندكم وزن وقدر فلا وزن لكم عنده أو قدر.

فانتبه

أنه أراد بنفي مشابهة الله للحوادث وأيضا بصفة الغنى له عز وجل أنه لا يتصف بفوقيته على خلقه وأنه ليس فوق العالم، وأنه إن قلنا: إن الله عز وجل استوى على العرش فهو محتاج إليه مفتقر للمحل، وهذا يُنافي صفة واجب الوجوب "الغنى"، فنقول: إن هذا الكون قد وسعه عرش الله عز وجل وإن رب الكون قد استوى على العرش عز وجل وعلا عليه، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يُسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، محمولون بلطف قدرته، مقهورون بجلال قوته. ونستعمل معهم فلسفتهم ونقول: هل الله عز وجل موجود في هذا الوجود؟؟ إن قالوا: "نعم" قلنا: الوجود محل فوجوده عز وجل في هذا الوجود يدل على افتقاره إليه وهو يُنافي صفة واجب الوجود "الغنى"، وإن قالوا: غير موجود في الوجود كان كفرهم أظهر للأجنة.

الأشاعرة هم أنفسهم مضطربون في الصفات السلبية، فمنهم: من يراها محصورة في خمسة كصاحب المذكرة، ومنهم: في ستة كابن عاشر ومن يزيد صفة الوجود، ومنهم: من يراها غير محصورة في عدد كاللقاني، وتناقضهم فيما بينهم فيما يزعمون أنه من صفات واجب الوجود دليل واضح في أنهم لم يأخذوه من كتاب الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. وأنت لا تجد بين أهل السنة والجماعة خلافا في أصل من أصول الإعتقاد، وإن وجد فهو راجع إلى النقل، كأن ينفي أحد صفة لكونه لم ير فيها نصا، ويُثبتها الآخر الذي وصله النص.   

 

([1])  "تهافت التهافت" (189)

([2])  "المطالب العالية للرازي" (2/106)

([3])  "فتح الباري" (13/455)

([4])  ترجيح أساليب القرآن لابن الوزير (343-247)