عبد الرحمن بن محمد سعيد دمشقية
الاستغاثة ليست بمعنى التوسل لما يلي:
1) أن السلف ما فهموا التوسل والاستغاثة بمعنى واحد. ولو فهموا ما فهمه السبكي وغيره لاستغاثوا لكنهم لم يفعلوا.
2) أن السلف تركوا التوسل به e بعد موته بالإجماع كما في قصة القحط عن عمر حيث قال " اللهم كنا إذا أجدبنا سألناك بنبيك " ([1]). فإذا تركوا التوسل به بعد موته e فكيف يعقل أن يستغيثوا به بعد موته؟
3) الاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة، وهو مستعمل لمعنى الطلب من المستغاث به لا بمعنى التوسل.
وإذا طلب العبد من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك بالله في عبادته، والشرك محبط للعمل، قال تعالى لنبيه محمد e ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وبما أن الله خاطب بذلك سيد الخلق وأعظم الموحدين. فنحن أولى أن نخاف ونحذر من الوقوع في الشرك كل الحذر حتى لا يخدعنا الشيطان ويوحي إلينا أننا ما دمنا مسلمين نقر بالشهادتين فلن نقع في الشرك.
تنبيه على تناقض الأحباش
يتساءل الأحباش: كيف تتهمون من يقول لا إله إلا الله بالشرك لدعائه غير الله؟ وجوابنا مستفاد مما يقولونه هم دائما أن " من قال لا إله إلا الله وهو يعتقد أن الله في السماء فإن هذه الشهادة لا تنفعه وهو كافر لأن الشهادة تنفع مع الاعتقاد الصحيح، أما من تلفظ بها بلسانه وعقيدته فاسدة فإنها لا تنفعه " ([2]).
وهذا ما نقوله لهم: إن من دعا من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه فإنه مخالف بعقيدته ما يتلفظ به لسانه.
وكيف يكفر من وافق قول القرآن ﴿ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء ﴾؟ ووافق شهادة النبي e للجارية بالإيمان لقولها أن الله في السماء؟ فإن كان الكتاب والسنة غير كافيين لكم فعليكم بما قاله شيخكم ابن فورك الأشعري " اعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء؟ لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به، وهو قوله ﴿ ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء ﴾ ومعنى ذلك أنه فوق السماء" ([3]).
4) لو كانت الاستغاثة بمعنى التوسل لصار معنى ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ أي تتوسلون بربكم؟ إلى من؟ ولصار معنى قوله تعالى ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ أي فتوسل به الذي من شيعته على الذي من عدوه! توسل به إلى من؟
5) الاستغاثة بالله طلبٌ منه لا طلبٌ به. والمستغيث بالشيء طالب منه سائل له. والمستغاث هو المسئول منه لا المسئول به.
ومن المعلوم أن المتوسل به لا يدعى ولا يسأل ولا يطلب منه، وإنما يطلب به لا منه. وهذا التفريق بين المدعو وبين المدعو به ضروري لا يعرفه عامة الناس وبالتالي لا يتفطنون لهذا المكر الحبشي بهم.
6) أنك قد تجد في إحدى الروايات عن أحمد جواز التوسل بالنبي e إن صحت، أما أن تجد أحداً من الأئمة المعتبرين يجيز الاستغاثة بغير الله فهذا مستحيل.
ولهذا حكى ابن حجر الهيتمي إجماع الحنابلة على أن من يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً ([4]). ولم يعترض الهيتمي على هذا الإجماع بل أقره وأورده مستحسنا له، بينما أجاز التوسل بالنبي e في حاشيته على إيضاح المناسك للنووي.
¨ وحكى الحافظ ابن رجب عن أحمد أنه كان يدعو فيقول " اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك " ([5]).
مفاجأة من السبكي
7) أن تعلقهم بالسبكي على أن " التوسل والاستغاثة بمعنى واحد" مع تجاهل القرآن ﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ والحديث "إذا سألت فاسأل الله " ليس من صفات المسلم. ولقد كان السبكي يقصد بـ ( الاستغاثة بالنبي ): الاستغاثة إلى الله بالنبي e ولذلك قال " اعلم أنه يجوز التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه ". ثم استدل على ذلك بحديث "يا رب أسألك بحق محمد" ([6]).
ثم قال " ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه، فالمسئول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له، والمسئول به مختلف، ولم يوجب ذلك إشراكاً ولا سؤال غير الله، كذلك السؤال بالنبي e ليس سؤالاً للنبي e بل سؤال لله به ". وضرب لذلك مثلا أن تقول " استغثت الله بالنبي e كما يقول: سألت الله بالنبي e " ([7]). وهذا يفيد: أن سؤال غير الله شرك عند السبكي. وأن الاستغاثة بالنبي معناها عنده: الاستغاثة بالله بالنبي e ولكنه عادة يختصر العبارة ويقول: ( الاستغاثة بالنبي ). ولذلك قال " وقد يحذف المفعول به ( أي الله المستغاث ) ويقال: استغثت بالنبي e " ([8]). على أن هذا خطأ من السبكي أدى إلى استغلاله فيما بعد.
¨ بل قال السبكي في قوله تعالى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ " إن هذه الآية تفيد العلم بأنه لا يستعان غير الله " وأكد أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ([9]).
ونحن مع اختلافنا مع السبكي في استخدام عبارة " استغثت بالنبي " وحول التوسل، إلا أننا نتفق معه على عدم جواز سؤال غير الله. وبهذا ينكشف تلبيس الأحباش وتحريفهم للنصوص.
وهذا السبكي الابن ينقل عن القماح شعراً يقول فيه ([10]):
فاضرع إلى الله الكريم ولا تسل بشراً فليس سواه كاشـف الضر
مفاجأة من عند أبي حنيفة
8) ونقلب السحر على الساحر فنقول: إن كان التوسل والاستغاثة بمعنى واحد فحينئذ نقرر لكم أن أبا حنيفة نهى عن الاستغاثة بالنبي e ونلبس عليكم ما تلبسون.
فإن قلتم: أين صرح بهذا؟ قلنا: ألم ينه أبو حنيفة عن التوسل بالنبي e ورواه عامة الأحناف عنه؟
قال المرتضى الزبيدي " وقد كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، إذ ليس لأحد على الله حق " ([11]) وهو ما جاء عند البلدجي في شرح المختارة. والقدوري في شرح الكرخي، ونصه ([12]) " لا ينبغي ([13]) لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به: هو ما استفيد من قوله تعالى ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ ﴾ (الأعراف 180) وقال أيضا " وأكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك " ([14]).
وقد نقل الحبشي كلام أبي حنيفة وقول أصحابه كابي يوسف " لا يدعى الله بغيره " وقد ذكرها الحبشي عنه ولم يشك في نسبتها إليه وإنما زعم أن قوله لا حجة فيه ([15]).
فإذا خلطنا التوسل بالاستغاثة حملنا نهي أبي حنيفة عن التوسل على معنى الاستغاثة. وهذا اللائق بمن لا يفرق بين النوعين تمويها وغشاً للناس.
ولئن كنا بذلك نفاةً للتوسل، صفوا بذلك عمر بن الخطاب لقوله بعد موت النبي e فيما رواه البخاري ( اللهم كنا نتوسل بنبيك " ثم صفوا بذلك أبا حنيفة ثانياً.
فلسنا نفاة كل توسل إذ ليس كل توسل حراماً، كالتوسل بدعاء الرجل الصالح لا بذاته.
ولسنا نفاة كل استغاثة، فالاستغاثة بالحاضر الحي جائزة. مثالها استغاثة الناس بآدم يوم الموقف.
ولسنا ضد كل أنواع التبرك فإن السلف الذين كانوا يتبركون به e وهو حي: قد تركوا التبرك به بعد موته ولم يتبرك بعضهم ببعض.
نعم، لقد استغاث الصحابة بالنبي e في حياته ولكنهم لم يكونوا يستغيثونه إلا أمامه وهو حي ويطلبون منه أن يدعو الله لهم لنزول المطر كما في كتاب الاستسقاء عند البخاري، وعلى المخالف أن يثبت ولو حادثة واحدة تناقض ذلك. فيلزمه إن كان أشعرياً أن لا يأتي من الأخبار في العقائد إلا بما كان متواتراً، فإن عجز عن الإتيان بدليل صحيح يثبت به الاستغاثة به وهو حي غائب، فهو أعجز عن الإتيان بدليل على الاستغاثة به بعد موته.
من كتاب كيف يستغل الأحباش البيئة المناسبة
_________________________________
([1]) - رواه البخاري في كتاب الاستسقاء.
([2]) - مجالس الهدى لنبيل شريف: شريط 2ب الوجه الأول.
([3]) - مشكل الحديث وبيانه 392 ط: دار عالم الكتاب.
([4]) - الإعلام بقواطع الإسلام 95 وانظر هذه الفتوى في كتاب الحنابلة: الفروع 6 / 156 الإنصاف للمرداوي 10 / 327 غاية المنتهى للمرعي 3 / 355 الاقتناع وشرحه 4 / 100.
([5]) - جامع العلوم والحكم 283.
([6]) - شفاء السقام في زيارة خير الأنام 160 - 161 دار الآفاق. والحديث موضوع كما في تعقيب الذهبي على مستدرك الحاكم 2 / 615.
([7]) - شفاء السقام ص174 و 176.
([8]) - شفاء السقام 176.
([9]) - فتاوى السبكي 1 / 13 طبقات السبكي 10 / 304.
([10]) - طبقات السبكي 9 / 92 محققة.
([11]) - إتحاف السادة المتقين 2 / 285.
([12]) - أنظر الدر المختار 2 / 630 ونقله القدوري وغيره عن أبي يوسف والفتاوى الهندية 5 / 280 الفقه الأكبر بشرح ملا علي قاري 110. الدر المختار للحصفكي شرح تنوير الابصار للتمرتاشي مع رد المحتار الشامي 5 / 254 ط: دار إحياء التراث 6 / 419 و 6 / 396 ط: دار الفكر.
([13]) - قوله: ( لا ينبغي ) لا تعني الكراهية ودليله قول أبي حنيفة " والدعاء المأذون فيه والمأمور به " وقول محمد أن دعاء الله بغيره كالعقوبة بالنار. والكراهة عند المذهب الحنفي تطلق على المحرم كما اعترف به الأحباش في مجلتهم ( منار الهدى 19 / 27 ) والاستعمال القرآني هو الأصل فقد قال تعلاى ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ).
([14]) - الفتاوى الهندية 5 / 280 الفقه الأكبر بشرح ملا علي قاري 110.
([15]) - صريح البيان 68 - 69 و 162 - 163 من الطبعة الجديدة المجلدة.