تُعدّ مسألة حكم مرتكب الكبائر من أعمق القضايا الكلامية التي أثارت جدلاً واسعًا بين الفرق الإسلامية، خاصة بعد ظهور الخوارج الذين كفّروا العصاة وجعلوا مرتكب الكبيرة في منزلة الكافر المخلّد في النار. وقد تناول علماء الشيعة الإمامية هذه القضية بكثرة في كتبهم الكلامية والفقهية، فقرروا أن شارب الخمر والزاني ومرتكب سائر الكبائر من الشيعة لا يُحكم بكفره، بل يُعد مؤمنًا مستحقًا للشفاعة، ولو كان تاركًا للصلاة أو متجاهرًا بالمعصية. ويظهر من نصوص الشريف المرتضى والصدوق والطوسي والسبحاني والخوئي وغيرهم أن الإمامية خالفوا منهج الخوارج، لكنهم بالغوا في إطلاق وصف الإيمان على العصاة من شيعتهم، حتى جعلوا شفاعة النبي ﷺ والأئمة خاصة بأهل الكبائر منهم. وهذا يثير إشكاليات عقدية وأخلاقية كبرى تستحق الوقوف عندها.
مقالات السقيفة ذات صلة:
الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها
أصول أهل السنة والجماعة في الصفات
رواية الشاب الأمرد في كتب الشيعة
قال الشريف المرتضى:
" المسألة السابعة [حكم مرتكب الكبائر من المعاصي] وسأل (أحسن الله توفيقه) عن شارب الخمر والزاني ومن جرى مجراهما من أهل المعاصي الكبائر، هل يكونوا كفارا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله إذا لم يستحلوه أما فعلوه؟ الجواب: وبالله التوفيق. إن مرتكبي هذه المعاصي المذكورة على ضربين: مستحل، ومحرم فالمستحل لا يكون إلا كافرا، وإنما قلنا إنه كافر، لإجماع الأمة على تكفيره، لأنه لا يستحل الخمر والزنا مع العلم الضروري بأن النبي صلى الله عليه وآله حرمهما، وكان من دينه (ص) حظرهما، إلا من هو شاك في نبوته وغير مصدق به، والشك في النبوة كفر، فما لا بد من مصاحبة الشك في النبوة له كفر أيضا. فأما المحرم لهذه المعاصي مع الإقدام عليها فليس بكافر، ولو كان كافرا لوجب أن يكون مرتدا، لأن كفره بعد إيمان تقدم منه، ولو كان مرتدا لكان ماله مباحا، وعقد نكاحه منفسخا، ولم تجز موارثته، ولا مناكحته، ولا دفنه في مقابر المسلمين، لأن الكفر يمنع من هذه الأحكام بأسرها. وهذه المذاهب إنما قال به الخوارج، وخالفوا فيه جميع المسلمين، والاجماع متقدم لقولهم، فلا شبهة في أن أحدا قبل حدوث الخوارج ما قال في الفاسق المسلم أنه كافر ولا له أحكام الكفار " اهـ
رسائل المرتضى - الشريف المرتضى - ج 1 - ص 155 – 156
وقال جعفر السبحاني:
" حكم مرتكب الكبيرة: إن الخوارج كانوا يحبون الشيخين ويبغضون الصهرين، بمعنى أنهم كانوا يوافقون عثمان في سني خلافته إلى ست سنين، ولما ظهر منه التطرف والجنوح إلى النزعة الأموية، واستئثار الأموال أبغضوه، وأما علي عليه السلام فقد كانوا مصدقيه إلى قضية التحكيم، فلما فرض عليه التحكيم وقبل هو ذلك المخطط عن ضرورة واضطرار، خالفوه ووصفوه باقتراف الكبيرة، - فعند ذاك - نجمت مسألة كلامية وهي ما هو حكم مرتكب الكبيرة؟ وقد استفحل أمرها أيام محاربة الخوارج مع الأمويين الذين كانوا معروفين بالفسق والفجور، وسفك الدماء وغصب الأموال، فكان الخوارج يحاربونهم بحجة أنهم كفرة لا حرمة لدمائهم ولا أعراضهم ولا نفوسهم لاقترافهم الكبائر.
مقالات السقيفة ذات صلة:
أن الله كتب التوراة لموسى بيده
الأصل حمل الصفات على الحقيقة (3)
وعلى أي تقدير ففي المسألة أقوال:
أ- مرتكب الكبيرة كافر.
ب. مرتكب الكبيرة فاسق منافق.
ج. مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق.
د. مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل منزلة بين المنزلتين.
الأول خيرة الخوارج،
والثاني مختار الحسن البصري،
والثالث مختار الإمامية والأشاعرة،
والرابع نظرية المعتزلة " اهـ
رسائل ومقالات - جعفر السبحاني - ص 288 – 289
بل ان الخوئي يطلق لقب المؤمن على الشيعي الذي يشرب الخمر ويحرم لعنه
ففي صراط النجاة:
" 1220: هل يجوز لعن شارب الخمر المتجاهر حتى لو كان مواليا؟ الخوئي: لا يجوز لعن من هو مؤمن " اهـ.
صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 1 - ص 442
بل انه يطلق لقب الايمان على تارك الواجبات ومنها الصلاة،
ففي صراط النجاة:
" سؤال 1375: لقب المؤمن خاص لشيعة أهل البيت عليهم السلام هل يقال للشيعي مؤمن حتى لو ترك الواجبات، كالصلاة مثلا؟ الخوئي: نعم يقال له مؤمن " اهـ.
صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 2 - ص 438
قال الصدوق:
" 4963 - وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ". 4964 - وقال الصادق عليه السلام: " شفاعتنا لأهل الكبائر من شيعتنا، وأما التائبون فإن الله عز وجل يقول: " ما على المحسنين من سبيل " اهـ
من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 3 - ص 574
وقال المرتضى:
" ومما يدل على شفاعة النبي صلى الله عليه وآله إنما هي في إسقاط العقاب دون إيصال المنافع، الخبر المتضافر المجمع على قبوله وإن كان الخلاف في تأويله من قوله عليه السلام (أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فهل تخصيص أهل الكبائر بالشفاعة إلا لأجل استحقاقهم للعقاب. ولو كانت الشفاعة في المنافع لم يكن لهذا القول معنى، لأن أهل الكبائر كغيرهم في الانتفاع بدون النفع، هذا واضح لمن تأمله " اهـ
رسائل المرتضى - الشريف المرتضى - ج 1 - ص 151
وقال ابو صلاح الحلبي:
" ويدل على ذلك ما نقله محدثو الشيعة وأصحاب الحديث ولم ينازع في صحته أحد من العلماء من قوله صلى الله عليه وآله: " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " اهـ
الكافي في الفقه - ابو صلاح تقي الدين بن نجم الدين الحلبي - ص 469
وقال الطوسي:
" أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. وفي خبر آخر: أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول، فلا يمكن أن يقال أنه خبر واحد " اهـ
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 127 – 128