إِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [التكوير: 24] يَعُدُّ مِنَ الآيَاتِ البَارِزَةِ الَّتِي بَيَّنَتْ مَكَانَةَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي تَبْلِيغِ الوَحْيِ، وَإِخْلَاصِهِ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ القُرَّاءُ فِي لَفْظِ ﴿بِضَنِينٍ﴾؛ فَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالبَصْرَةِ وَالكِسَائِيُّ بِالظَّاءِ: ﴿بِظَنِينٍ﴾، أَيْ بِمُتَّهَمٍ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ بِالضَّادِ: ﴿بِضَنِينٍ﴾، أَيْ بِبَخِيلٍ.
وَكِلْتَا القِرَاءَتَيْنِ صَحِيحَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ، وَتُفِيدَانِ مَعْنًى مُتَكَامِلًا: فَالنَّبِيُّ ﷺ لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِي نَقْلِ الوَحْيِ، وَلَا هُوَ بِبَخِيلٍ يَكْتُمُ شَيْئًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ.
إِنَّ هَذَا البَيَانَ يُؤَكِّدُ عَدَالَةَ الرَّسُولِ ﷺ فِي التَّبْلِيغِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَسَبَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنَ التُّهْمَةِ أَوْ الكِتْمَانِ، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الغَيْبِ، يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ...
مقالات السقيفة ذات صلة: |
- النبي بايع عن عثمان في بيعة الشجرة |
سؤال: وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين؟
تفسير البغوي:
وَما هُوَ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْغَيْبِ، أَيِ الْوَحْيِ، وَخَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ غَائِبًا عَنْهُ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ، بِضَنِينٍ، قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ بِالظَّاءِ أَيْ بِمُتَّهَمٍ، يُقَالُ:
فُلَانٌ يَظِنُّ بمال ويزن أن يُتَّهَمُ بِهِ وَالظِّنَّةُ التُّهْمَةُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالضَّادِ أَيْ يَبْخَلُ يَقُولُ إِنَّهُ يَأْتِيهِ عِلْمُ الْغَيْبِ فَلَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَيْكُمْ بَلْ يُعَلِّمُكُمْ وَيُخْبِرُكُمْ بِهِ، وَلَا يَكْتُمُهُ كَمَا يَكْتُمُ الْكَاهِنُ مَا عِنْدَهُ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ حُلْوَانًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ بِكَسْرِ النُّونِ أَضِنُّ بِهِ ضَنًّا وَضِنَانَةً فَأَنَا بِهِ ضَنِينٌ أَيْ بَخِيلٌ.
تفسير الواحدي:
ثم أخبر أنه ليس بمتهم فيما يأتي به من القرآن، فقال: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [التكوير: 24].
يعني: على خبر السماء، وما أطلع عليه مما كان غائبًا علمه عن أهل مكة من الأنباء، والقصص، مما لم يعرفوه، بظنين بمتهم، يقول: ما محمد على القرآن بمتهم.
أي: هو ثقة فيما يؤدي عن الله، ومن قرأ بالضاد فمعناه ببخيل، أي: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن حتى يأخذ عليه حلوانًا.
ويقول اهل اللغة:
ضنن (الضَّنَنُ، محرَّكةً: الشُّجاعُ)؛ قالَ:
(إِني إِذا ضَنَنٌ يَمْشِي إِلَى) ضَنَنٍ أَيْقَنْتُ أَنَّ الفَتى مُودٍ بِهِ الموتُ (والضَّنِينُ البَخيلُ) بالشَّيءِ النَّفيسِ.
قالَ الفرَّاءُ: قَرَأَ زَيْدُ بنُ ثابتٍ وعاصِمٌ وأَهْلُ الحِجازِ: ﴿وَمَا هُوَ على الغَيْبِ ﴿بضَنِينٍ﴾ وَهُوَ حَسَنٌ، يقولُ: يأْتِيه غَيْبٌ وَهُوَ مَنْفوس فِيهِ فَلَا يَبْخلُ بِهِ عليكُم وَلَا يَضِنُّ بِهِ عَنْكُم، وَلَو كانَ مَكان على عَن صَلَح أَو الْبَاء تقولُ: مَا هُوَ بضَنِين بالغَيْبِ.
وقالَ الزَّجَّاجُ: مَا هُوَ على الغَيْبِ ببَخِيلٍ كَتُومٍ لمَا أُوحِي إِلَيْهِ، وقُرِىءَ بظَنِينٍ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي محلِّه.
وَقد ضنَّ بالشيءِ، كفَرِحَ، (يَضِنُّ بالفتْحِ!)، وَهِي اللُّغَةُ العالِيَةُ، (والكَسْر) فِي الْآتِي، حَكَاه يَعْقوب: ورَوَى ثَعْلَب عَن الفرَّاء: سَمِعْتُ: (ضَنَنْتُ وَلم أَسْمَع أَضِنُّ) ضَنانَةً، بالفتحِ، (وضِنَّاً، بالكسْرِ) ويُفْتَحُ، إِذا بخلَ بِهِ.
تاج العروس ج 35 ص 340 ط دار الهداية