تُعَدّ أحاديث الشفاعة والفكاك من النار من أعظم النصوص التي تكشف رحمة الله الواسعة بعباده المؤمنين، وتُظهِر عظمة الإسلام في تخليص أهله من العذاب رغم ما قد يقارفونه من الذنوب. وقد ورد في صحيح مسلم حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار»، وكذلك رواية «يجىء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى». وهذه النصوص أثارت نقاشاً واسعاً بين العلماء من حيث ثبوت بعضها، وكيفية تأويلها بما يتوافق مع القواعد القطعية كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم: 38]. وقد تناول الشراح هذه الأحاديث بالبيان، كالإمام النووي وابن عثيمين، في حين حكم عليها آخرون كالإمام البيهقي والألباني بالشذوذ، مع بيان علل الرواية ومكانتها في صحيح مسلم.

قال الامام مسلم:

 " 49 - (2767) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دَفَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ "

اخترنا لكم:

50 - (2767) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» فِيمَا أَحْسِبُ أَنَا. قَالَ أَبُو رَوْحٍ: لَا أَدْرِي مِمَّنِ الشَّكُّ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: أَبُوكَ حَدَّثَكَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ "

 

صحيح مسلم - بَابُ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَثُرَ قَتْلُهُ ج 4 ص 2119

قال الامام النووي:

" قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ) وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَفِي رِوَايَةٍ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْفَكَاكُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا الْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ الْخَلَاصُ وَالْفِدَاءُ وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَالْمُؤْمِنُ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ خَلَفَهُ الْكَافِرُ فِي النار لاستحقاقه ذلك بكفره ومعنى فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ أَنَّكَ كُنْتَ مُعَرَّضًا لِدُخُولِ النَّارِ وَهَذَا فَكَاكُكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهَا عَدَدًا يَمْلَؤُهَا فَإِذَا دَخَلَهَا الْكُفَّارُ بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ صَارُوا فِي مَعْنَى الْفَكَاكِ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا رواية يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بِذُنُوبٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ تِلْكَ الذُّنُوبَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُسْقِطُهَا عَنْهُمْ وَيَضَعُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلَهَا بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ بِأَعْمَالِهِمْ لا بذنوب المسلمين ولا بدمن هَذَا التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى﴾ وَقَوْلُهُ وَيَضَعُهَا مَجَازٌ وَالْمُرَادُ يَضَعُ عَلَيْهِمْ مِثْلَهَا بِذُنُوبِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَكِنْ لَمَّا أَسْقَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَبْقَى عَلَى الْكُفَّارِ سَيِّئَاتِهِمْ صَارُوا فِي مَعْنَى مَنْ حَمَلَ إِثْمَ الْفَرِيقَيْنِ لِكَوْنِهِمْ حَمَلُوا الْإِثْمَ الْبَاقِي وَهُوَ إِثْمُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ آثَامًا كَانَ لِلْكُفَّارِ سَبَبٌ فِيهَا بِأَنْ سَنُّوهَا فَتَسْقُطُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُوضَعُ عَلَى الْكُفَّارِ مِثْلُهَا لِكَوْنِهِمْ سَنُّوهَا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ كُلِّ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا "

 شرح صحيح مسلم ابو زكريا يحيى بن شرف النووي - ج 17 ص 85

وقال الامام ابن عثيمين:

 " قوله: ((دفع إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار)) معناه ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لأنه مستحق لذلك بكفره)).

من مقالات السقيفة:

ومعنى ((فكاكك)):

 أنك كنت معرضاً لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكافر بذنوبهم وكفرهم، صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. والله أعلم

شرح رياض الصالحين محمد بن صالح العثيمين ج 3 ص 323

واقول ان بعض اهل العلم قد حكم على حديث: «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» بالشذوذ، وبينوا العلة فيه، وقالوا ان الامام مسلم اورده في الشواهد.

 قال الامام البيهقي:

" وَأَمَّا حَدِيثُ: شَدَّادٍ أَبِي طَلْحَةَ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ مِثْلِ الْجِبَالِ يَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى " " فِيمَا أَحْسِبُ أَنَا قَالَهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ، فَهَذَا حَدِيثٌ شَكٌّ فِيهِ رَاوِيهِ، وَشَدَّادُ أَبُو طَلْحَةَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ اسْتَشْهَدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِمَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ فِيهِ كيف وَالَّذِينَ خَالَفُوهُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ عَدَدٌ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ خَالَفَهُ أَحْفَظُ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِتَأْوِيلِ مَا رَوَاهُ مَعَ خِلَافِ ظَاهِرِ مَا رَوَاهُ الْأُصُولَ الصَّحِيحَةَ الْمُمَهَّدَةَ فِي: ﴿أَلَّا تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: 38] وَاللهُ أَعْلَمُ "

شعب الايمان ابو بكر احمد بن الحسين البيهقي ج 1 ص 583

وقد حكم الامام الالباني على الحديث بالشذوذ وجعل علته الراسبي، وان الامام مسلم قد روى له في الشواهد، حيث قال: " 5399 - (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى... فيما أحسب).

شاذ

.................

 وأما اللفظ الأول؛ فهو منكر أو شاذ على الأقل؛ لأنه تفرد به الراسبي، وهو وإن كان وثقه أحمد وغيره؛ فقد ضعفه شيخه عبدالصمد بن عبدالوارث.

 وقال العقيلي:"له غير حديث لا يتابع عليه".

وقال ابن حبان: "ربما أخطأ".

وقال الدارقطني:"يعتبر به".

وقال الحاكم أبو أحمد:"ليس بالقوي عندهم".

قلت: فهذه الأقوال تدل على أن الرجل لم يكن قوياً في حفظه، وإن كان صدوقاً في نفسه. ولذلك؛ لم يخرج له مسلم إلا في الشواهد؛ كهذا الحديث. وقال الحافظ في "التقريب":"صدوق يخطىء".

فمثله حديثه مرشح للتقوية بالشاهد والمتابعة، أو للضعف بالمخالفة كحديث الترجمة.

وبها أعله البيهقي، فقال في "شعب الإيمان" (1/ 266-267) - بعد أن ساق الحديث الصحيح من الطرق الثلاث عند مسلم وأتبعه بحديث الترجمة -:

"فهذا حديث شك فيه [بعض] رواته، وشداد أبو طلحة ممن تكلم أهل العلم بالحديث فيه، وإن كان مسلم استشهد به في كتابه؛ فليس هو ممن يقبل منه ما يخالف فيه، والذين خالفوه في لفظ الحديث عدد، وهو واحد، وكل واحد ممن خالفه أحفظ منه، فلا معنى للاشتغال بتأويل ما رواه، مع خلاف ظاهر ما رواه الأصول الصحيحة الممهدة في أن لا تزر وازرة وزر أخرى. والله أعلم".

قلت: وهذا منه رحمه الله في غاية التحقيق، وإليه يرجع الفضل في تنبهي لهذه العلة.... "

سلسلة الأحاديث الضعيفة محمد ناصر الدين الالباني ج 11 ص 667 668