شبهة حديث "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"
من أعظم القضايا التي أثارت جدلاً واسعاً في كتب العقيدة والحديث: مسألة الصفات الإلهية وما يندرج تحتها من دلالات نصوص الكتاب والسنة. ومن بين هذه النصوص ما ورد في حديث النبي ﷺ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطيب عند الله من ريح المسك»، حيث وقع الخلاف بين العلماء: هل يدل هذا الحديث على إثبات صفة "الشم" لله سبحانه وتعالى؟ أم أن المراد هو الثناء والرضا عن عبادة الصائم؟
هذه المسألة طرحت على عدد من كبار العلماء المعاصرين:
من مقالات السقيفة:
حديث "اعرضوه على القرآن" بين التحريف والبطلان حديث «كتاب الله وسنتي» بين التشكيك الشيعي وتوثيق أهل العلم المقدمة |
مثل الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، وكذلك بحثها علماء السلف والخلف من قبل. وفي هذا المقال نسلط الضوء على حقيقة الأمر، ونبين الموقف الصحيح وفق منهج أهل السنة والجماعة، مع مناقشة شبهات من اتهم السلف بالتجسيم، وبيان خطأ من حمل النصوص على غير ظاهرها بلا ضرورة.
مسألة من مسائل الإمام الراحل، رحمه الله تعالى، ابن باز، حيث سُئل، رحمه الله تعالى، عن إن كان هذا الحديث «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» من الأحاديث التي يُستدل بها لإثبات صفة الشم لله عز وجل، واستدل بهذا على أن أهل السنة والجماعة يُجسمون الله عز وجل وما إلى ذلك. وفي هذا المبحث سنتطرق إلى كون هذه المسألة حقيقة، وهل يصح أن نقول هذا الأمر، والرد عليه مما أورده هذا الفاشل في الوثيقة التي نقلها عن مسائل الإمام ابن باز، رحمه الله تعالى.
ابن باز أطلق الاحتمال ولم يجزم:
اخترنا لكم:
ولو نظرنا إلى الحاشية، فإن المحقق يقول (1) قال شيخنا ابن عثيمين في شرح صحيح البخاري: ((ليس في الحديث صراحة بذلك، وقد يكون إدراك الله لهذه الرائحة عن طريق العلم، لا عن طريق الشم، فينبغي الإمساك ونقول: إن دل عليها الدليل فنعم وإلا فلا)) فهذا ما قاله المحقق في الحاشية، وهو كلام نفيس لشيخنا ابن عثيمين، رحمه الله تعالى، حول هذه اللفظة في صحيح البخاري، فليس العبرة فقط بنقل قول أحد العلماء دون غيره، وإن كلام أهل العلم، رحمهم الله، بهذه اللفظة، على أنها لا تدل على ذلك إلا بدليل، وهذا المحمول من كلام ابن باز، رحمه الله تعالى، في الوثيقة المنقولة.
قال الشيخ عبدالرحمن البراك، حفظه الله، في تعليقه على فتح الباري لابن حجر تحقيق الشيخ نظر الفاريابي 5/215: ((قوله [ابن حجر] "... مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح .. الخ))
هذا الجزم من الحافظ، رحمه الله، بنفي الشم عن الله تعالى الذي هو إدراك المشمومات لم يذكر عليه دليلاً إلا قوله: "إذ ذاك من صفة الحيوان" وهذه الشبهة هي بعينها شبهة كل من نفى صفة من صفات الله سبحانه من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وهي شبهة باطلة، فما ثبت لله تعالى من الصفات يثبت له على ما يليق به، ويختص به كما يقال ذلك في سمعه وبصره وعلمه، وسائر صفاته، وصفة الشم ليس في العقل ما يقتضي نفيها فإذا قام الدليل السمعي على إثباتها، وجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، وهذا الحديث، وهو قوله: "«لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»".
ليس نصاً في إثبات الشم بل هو محتمل لذلك، فلا يجوز نفيه من غير حجة، وحينئذ فقد يقال: إنه صفة الشم لله تعالى مما يجب التوقف فيه لعدم الدليل البين على النفي أو الإثبات فليتدبر، والله أعلم بمراده، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد قال ابن القيم عند هذا الحديث:
"ثم ذكر كلام الشراح في معنى طيبه، وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة حتى كأنه قد بورك فيه فهو موكل به.
وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله، والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟
وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له.
ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوماً بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع صلى الله عليه وسلم وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة، وأدنى أحوالها أن تكون شهادة بلا علم.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا، وأعظم ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعالهم لا تشبه أفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا، فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجئ من هذا الباب)) فهذا الباب الوحيد الذي يمكن أن تؤوّل به هذه المسألة.