من أعظم ما امتازت به عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، أو صح عن رسوله ﷺ في سنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ومن المسائل العقدية التي أثير حولها جدل كبير مسألة "الصوت" في كلام الله، حيث جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه القريب كما يسمعه البعيد. وقد أثبت هذه الصفة جملة من كبار الأئمة، كالإمام البخاري والحافظ ابن حجر، بينما حاول بعض المتكلمين نفيها أو تأويلها، كالإمام البيهقي ومن تبعه من الأشاعرة والمعتزلة. وفي هذا المقال نعرض أدلة الإثبات من الكتاب والسنة، ونناقش أبرز الشبهات المثارة حولها، مع بيان موقف أهل السنة والجماعة القائم على الوسطية والاعتدال في باب الأسماء والصفات.
وتعد مسألة "الصوت" في كلام الله من المسائل العقدية الدقيقة التي ثار حولها جدل واسع بين أهل السنة والمخالفين لهم من المتكلمين، كالأشاعرة والمعتزلة. ولقد أثبت أهل الحديث، وعلى رأسهم الإمام البخاري والحافظ ابن حجر وغيرهم، صفة الصوت لله تعالى، مستندين في ذلك إلى أحاديث صحيحة صريحة منها ما ورد في "صحيح البخاري" و"خلق أفعال العباد"، والتي فيها أن الله ينادي العباد يوم القيامة بصوت يسمعه القريب كما يسمعه البعيد. وفي مقابل ذلك، نفى بعض الأئمة كالإمام البيهقي هذه الصفة محتجًا بعدم وجود حديث صحيح صريح عنده، أو محاولًا تأويل الأحاديث بأنها محمولة على صوت الملك أو أجنحة الملائكة. هذا المقال يناقش هذه القضية العقدية الهامة من جهة إثباتها بالنقل الصحيح والمعقول الصريح، مع الرد على أبرز الشبهات.
من مقالات السقيفة:
يحشر الله العباد فيناديهم بصوت:
عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك، أنا الديان» (رواه البخاري 6/2719).
قال الشيخ الألباني:
«وقد أعله أبو الحسن بن الفضل بقوله: إنه تفرد به حفص بن غياث عن الأعمش بهذا اللفظ! ولكن رده الحافظ ابن حجر بقوله في (الفتح 13/386): «وليس كما قال. فقد وافقه عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن أبيه عن المحاربي».
قلت: (أي الألباني) «وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله في حديث له بلفظ (فينادي بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُبَ) وهو حديث صحيح، علقه البخاري في صحيحه ووصله في (أفعال العباد ص89) وفي (الأدب المفرد 970) وغيره وقواه الحافظ ابن حجر» (سلسلة الأحاديث الصحيحة 13/53).
وقد نفى البيهقي أن يصح حديث في إثبات الصوت وحمل حديث «إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء» على احتمال أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة [الأسماء والصفات 347 وقال أبو بكر بن فورك الشيء نفسه في كتابه (مشكل الحديث 450-451)].
وهذا التأويل المحتمل للصوت مردود فقد جاء في الحديث «أن الملائكة إذا سمعوا صوته صعقوا» وهم لا يصعقون إذا سمع بعضهم بعضاً.
ولهذا تعقبه الحافظ ابن حجر في الفتح بأن هذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة.
قال ويلزم منه «أن الله لم يسمع أحداً من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه...». وتعقبه أيضاً في تضعيفه لأحاديث الصوت مبيناً صحة طرقها ومنها حديث حشر العباد الذي أخرجه البخاري، وفيه «فيناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان» [فتح الباري 13/457 والحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد معلقاً باب قول الله ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾].
اخترنا لكم:
وانتهى الحافظ ابن حجر إلى القول:
«بأن هذه الأحاديث أطبق أهل السنة على قبولها» ثم قال: «وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به» [فتح الباري 13/460].
وصدق الحافظ ابن حجر فإن البيهقي قال: «ولم يثبت صفة الصوت في كلام الله أو في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته» [الأسماء والصفات 347].
وليُعلم أن البخاري احتج بهذا الحديث ثم قال: «وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله يُسمع من قرب كما يُسمع من بُعد وأن الملائكة يُصعَقون من صوته. فإذا تنادى الملائكة لم يُصعَقوا» [كتاب خلق أفعال العباد للبخاري 98] وهذا التعقيب يصلح توجيهه ضد كل من احتج بنفي البيهقي لصفة الصوت.
والله قال لموسى ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ﴾ (طه 13) ولم يقل له فافهم ما يوحى.
قال الحافظ: «وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين لأنها التي عُهد أنها ذات مخارج. ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخرج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق. سلمنا. لكن نمنع القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة، وجب الإيمان به، ثم إما التفويض وإما التأويل. وبالله التوفيق».
قلت: ليس هذا من توفيق الله. بل التوفيق الإلهي تفويض حقائقها وكيفيتها إلى الله وإثبات معانيها مقرونة بـ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
والأشاعرة المتناقضون لم يستفيدوا من ذلك شيئاً فإنهم ينفرون من حديث الصوت ولا ينفرون من رؤية الله وفيها عين ما يلزم من الصوت. ولكن الأشاعرة قوم يتناقضون.