تُعدُّ الآية الكريمة ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ من أبرز المواضع التي استدل بها بعض الفرق على إثبات صفة "الجنب" لله تعالى على سبيل الحقيقة، في مقابل تأويلات أخرى تنفي ذلك بحجة التنزيه.

وقد وقع الخلاف بين طوائف المتكلمين وأهل الحديث في تفسير هذا اللفظ، بين من حمله على الظاهر الذي يليق بجلال الله، وبين من صرفه عن ظاهره بدعوى المجاز أو الاحتمال.

اخترنا لكم:

ويأتي هذا المقال لعرض أقوال السلف والخلف في تفسير الآية، متناولًا بالدراسة أقوال كبار العلماء كابن تيمية، وابن القيم، وابن جرير الطبري، والدارمي، والجويني، والقرطبي، مع عرض الأدلة الحديثية واللغوية والعقدية التي تدعم تفسير أهل السنة للآية من غير غلو في الإثبات ولا تعطيل في التأويل.

﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني. 

فتكون عليه حسرة، وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني. فيكون له شكر. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ﴾.

رواه الحاكم في (المستدرك 2/473). وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا.

والتفريط هو ترك فعل. فكيف يكون ترك الفعل فعلاً قائماً في ذات الله؟

ولا يوجد في اللغة: فرطت في جنب فلان يستعمل لصفة الجنب للمخلوق؟

بمعنى أنه إذا أطلقت في حق المخلوق فلا يراد بها العضو أصلاً.

الذي أثبتها الجويني. فقد قال:

«إذا كنتم أثبتم الصفات الخبرية بظواهر الآيات فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات كالاستواء والنزول والجنب بظواهر النصوص» [الإرشاد للجويني ص157].

والقرطبي الذي قال:

«فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله» (تفسير القرطبي 11/256). واحتج بذلك أبو حيان في تفسيره مستحسناً له (تفسير البحر المحيط 8/128).

يقول ابن جرير عند تفسير هذه الآية:

 ((وقوله: على ما فرطت في جنب الله؛ يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله)) (تفسير الطبري 11/18).

فتفسير الآية عند أهل السنة: «تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله تعالى، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم» (الرد على المريسي ص184 للدارمي).

قال ابن القيم:

«فعلى تقدير أن يكون الساق والجنب من الصفات فليس من ظاهر القرآن ما يوجب أنه لا يكون له إلا ساق واحد وجنب واحد فلو دل على ما ذكرت لم يدل على نفي ما زاد على ذلك لا بمنطوقه ولا بمفهومه حتى إن القائلين بمفهوم» (الصواعق المرسلة 1/244).

من مقالات السقيفة:

 وقال ابن القيم: «العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته وهذا كجنب الشيء إذا قالوا هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة» (بدائع الفوائد 2/246).

إنما أثبت ابن القيم صفة الساق بالأحاديث التي تدل عليها كما هو مبين في الصواعق المرسلة أما صفة الجنب المزعومة فلا دليل عليها إلا قوله تعالى: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ﴾ وقد نفى ابن القيم دلالته على الصفة تبعاً للدارمي وهو الحق.

وبما أن أهل الفرق الباطلة لا ينصفون خصومهم ويتهمونهم زوراً أنهم يثبتون لله عضواً لله اسمه الجنب: 

 قطع ابن تيمية عليهم الطريق فقال:

«لا يُعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنباً نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ﴾ (الزمر 56). فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق؛ كقوله تعالى: ﴿بَيْتُ ٱللَّهِ﴾ ﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ﴾ و﴿عِبَادَ ٱللَّهِ﴾ بل وكذلك ﴿رُوحِ ٱللَّهِ﴾ عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم، ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره؛ مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك كان صفة له.

وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان؛ فإنه قال: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ﴾ والتفريط ليس في شيء من صفات الله عز وجل، والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه: لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص، بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه.

فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه، بل ذلك التفريط لم يلاصقه؛ فكيف يظن أن ظاهره في حق الله أن التفريط كان في ذاته؟»

(الجواب الصحيح 4/416).