منذ فجر الإسلام وأعداء الدين يتربصون به من الداخل والخارج، فلم يترك اليهود ومن وراءهم من أهل الكفر والضلال وسيلة إلا استخدموها في محاربة هذا الدين، تارة بالسيوف، وتارة بالحيل والمكر والخداع. ولما عجزوا عن إطفاء نور الله بالغزو المباشر، لجؤوا إلى بث الشبهات والعقائد المنحرفة عبر النفاق والتلبيس على المسلمين. ومن أخطر ما تسرب إلى بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام عقيدة التقية، التي اتخذها بعضهم أصلاً من أصول الدين، فشوّهوا بها حقيقة الشريعة، وفتحوا بها أبواب التحريف والتبديل.
وفي هذا السياق يأتي هذا البحث ليتناول مبدأ التقية عند الشيعة بالدراسة النقدية، من خلال تتبع جذوره التاريخية، وبيان منزلته عندهم، ثم عرض أسانيده الروائية ونقدها وفق ضوابط علم الحديث، لنكشف مدى تهافت هذا المبدأ وتعارضه مع نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
المقدمة:
لا يخفى على المتتبع للشأن الشيعي أهمية موقع "الحقائق الغائبة" والذي يعد أول موقع على الشبكة العنكبوتية تناول المسألة الشيعية بجميع جوانبه. ولعل أبرز ما يميز الموقع مؤلفات صاحبه والذي إختار لها إسم "سلسلة الحقائق الغائبة" وهو بحق إسم على مسمى ، إذ تناول المصنف المسائل الخلافية بين الشيعة والسنة بمنهج جديد بُني على الإحتجاج بكتب المخالف ودراسة أسانيد مروياته بمبانيه وقواعده في الجرح والتعديل . ولعل المؤلف من اوائل من تصدى لهذه المسألة إن لم يكن هو الأول فعلاً كما رأينا في الإصدار الأول من السلسة وهو كتاب "الإمامة والنص" الذي لم نحضى بشرف طباعتة ، ولكن مِن مَن الله ونعمه أن تتشرف شبكة المناصحة بتبني طباعة بقية السلسلة والذي نضع بين أيدكم اليوم منها كتاب " التقية .. الوجه الآخر" وهو دراسة علمية قيّمة اجاد فيها المؤلف – حفظه الله – في طرح هذه المسألة عرضاً ونقدا. عسى الله ان ينفع به المسلمين، وأن يزيل الغشاوة عن أعين الكثيرين من طلاب الحق ليقفوا على حقائق كثيرة هي كما قال المؤلف وإختاره إسماً لسلسلته " حقائق غائبة" .
مقالات السقيفة ذات صلة:
سلسلـــة الحقائـــق الغائبـــة –
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ [المائدة: 82].
فمنذ أن قدم الله عز وجل اليهود على الذين أشركوا في عداوتهم للمسلمين عرفنا أنه لا بد من أن يقف اليهود - ومن ورائهم كل قوى الظلام المنضوية تحت راياتهم من مجوس وهندوس وغيرهم من ملل الشرك - في صف أعداء الإسلام ليطفئوا نوره.
ولم يتوان هؤلاء عن إظهار عداوتهم، فقد فعلها طلائعهم في مهد الإسلام، فهذا حُيَيّ بن أخطب أحد زعماء اليهود نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقدم للقتل فيمن قتل من يهود بني قريظة، وقال: أما والله ما لُمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل.
عرفها ابن أخطب وعرفها أذنابه يوم أن انتكست راياتهم تحت سيوف الرعيل الأول من المسلمين، وعرفها بعد ذلك المنضوون تحت رايات الشرك يوم أن انكسرت شوكتهم وتوالت هزائمهم في القادسية واليرموك وفتح مصر وشمال أفريقيا وفارس وغيرها، عرفوا أن هذا النور لن توقفه جحافلهم مهما بلغت، ولن تصمد أمامه جيوشهم مهما قويت، فرأوا أن الكيد للإسلام بالحيلة أنجح، فبدءوا مخططاتهم في الخفاء، فكان استشهاد الفاروق عمر، وعثمان ذي النورين، وعلي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين، تلك النجوم الزاهرة من قادة الفتح الذين أذلوهم وأزالوهم وحضارتهم بأمجادها الزائلة بعد أن كانوا سادة الدنيا.
ثم عمدوا إلى النَّيْل من هذا الدين لإطفاء نوره، وأنى لهم والله يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة:32]؟!
فشرعوا في تشكيك المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فكان أيسر السبل إلى ذلك هو النفاق، بضاعتهم التي اشتهروا بها، فأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران:72]، فكان لهم إلى حد بعيد ما أرادوه، فمازال كيدهم في هذا الاتجاه يؤتي أكله، ولكن إلى حين.
وقد انضوى تحت نهجهم هذا كل الموتورين والحاقدين على هذا الدين، فاستمرءوا الانحراف، قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة:14]، فانطلت أباطيلهم في هذا المنوال على بعض ضعاف النفوس الذين لم تتشرب نفوسهم حقيقة هذا الدين، فأخرجوا من أخرجوا عن دائرة الإسلام، واجتهدوا في إبقاء من عجزوا عن الكيد به بمنأى عن سائر المسلمين، فأصّلوا لهم أصولاً وقعّدوا لهم قواعد ووضعوا لهم عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، فميزتهم عن سائر بني جلدتهم، وشذوا بها عنهم، كل ذلك من خلال إظهار الإيمان وإبطان خلافه تارة، ومن خلال تقنعهم بولاءات شتى باسم الدين تارة أخرى، كالتشيّع لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وجدت هذه الدعوات صدى عند الكثيرين من الذين صادفت أهواءهم وأغراضهم.
فلما وجد أعداء الإسلام أن الكثير من عقائد المسلمين قد تسرب إلى هؤلاء الذين راموا إخراجهم عن دائرة الإسلام؛ عمدوا إلى صرف كل ما تعارض مع مخططاتهم مما صدر عن الأئمة الذين تشيعوا لهم باسم الإسلام، بحجة أن ذلك كان منهم تقيةً مبعثها القهر والظلم والاستبداد الذي حاق بهم من الحكام الذين تولّوا إمرة المؤمنين عبر التاريخ.
فكان أن بقيت هذه الطوائف - بسبب عقيدة التقية - بعيدة عن إخوانها في الدين، فالتبس عليها أمر دينها، واختلط الحق بالباطل في أحكامها، فضاعت معالم دينها، وترسخت بمرور الزمن العقائد الباطلة فيها لتقاعس علمائها، فغدت ملاذاً آمناً لطلاب الدنيا الذين جعلوا هذه الرخصة هي جُل الدين لتيّسر لهم الأرضية التي تضمن بقاءهم، ومعها مصالحهم من حطام الدنيا الزائلة.
ونحن - إن شاء الله تعالى - في هذا الكتاب سنتناول مسألة التقية عند المسلمين عامة وعند الشيعة خاصة، باعتبار أنها من ضروريات مذهبهم، ونبين حقيقتها، وذلك في بابين:
الباب الأول: تعريف التقية ومشروعيتها من الكتاب والسنة، وأقوال علماء المسلمين من شيعة وسنة فيها، ثم بيان حقيقة التقية عند الشيعة ومنزلتها وجذورها التاريخية، ثم ذكر نماذج للتطبيقات العملية في ذلك.
والباب الآخر: في دراسة الأسس الروائية لمبدأ التقية عند الشيعة، وبيان تهافت أسانيدها، ومن ثم تهافت الأصول التي بنى عليها علماء مذهب التشيع هذا المبدأ، ثم بيان تعارض وخلاف تقية الشيعة مع الكتاب والسنة.